وحشة العمر، جسمُ السجنِ، الرمادي الهزيل، الذي لن يفارقكَ ما حييت.
تقفُ أمام مرآتكَ، أو أمام ظلكَ المكسور على الحائط، وتتساءل بذهولٍ “من أنت ؟”.
فترى في المرآةِ نافذةً صغيرةً معدنية، تحاول أن تمدَّ يدكَ، فيطلعُ لها قضباناً متقاطعةً، تلكَ أنت، وذاكرتك الجديدة.
تحاولُ استرجاع صوت الوالدة، والأخوة، في صباح يوم جمعة، تسمع صوت معتقلين، مربوطين بمعاصمهم، في سلسلةٍ معدنيةٍ واحدةٍ طويلة، يتهامسون ويصنعون الأمل من فوهة السجَّان، والقاضي، والكتبة الصامتين.
عمرك، أربع سنواتٍ حانية ظهرها للراكبين المبتسمين، المتخمين بالانتصارات الوهمية، وبضع أيامٍ محفورةٍ على الحائط المقشور، بفعلِ عرق أجسادٍ، حكَّها الوقتُ بها ومضوا بلا أرواحٍ، أو وداعاتٍ قصيرة، أو حتى تذكاراتٍ تشوَّهُ الصورة المعلوماتية، أمام عيونٍ شرهةٍ للمجزرة، وللبيانات الخُلَّبية الواهية، والمدفوعةُ من أباطرة القرار .
لا شيء يوثَّقُ ابتسامتك اللطيفة، وأنت تنتظرُ المُعجزة، ولا صمتكَ الطويل الجميلِ الذي يُشبهُ الموتَ، عندما تشعر باليأس من حصول المعجزة، وتدور بنظركَ على كُلِّ العيون التي يُمكنُ لكَ أن تراها، ضمن الحيِّزِ الضيِّقِ بكَ من هذا الوطن العريض، والذي يفتقد للطول في لحظةِ سجنك، ترى عيوناً غالبها النُعاس، لا تنام، وعيونٌ غالبها القهرُ، تغفو مثل مزحةٍ سمجة، وعيونً تسكنُ الزوايا، بياضُها متَّسِعٌ بشكلٍ فجٍّ، ترى جيداً، جيداً جداً، ترى العدم.
طولك، لا طول يغفرُ لي غضبَ المُحقِّق، سُخطَ المحقق، شماتة المُحقق، وشتائمهُ المتتاليةِ بانسيابٍ وقوةٍ، لتنالَ من أجداد وأحفادِ، ونسوة من له كرامة على كامل أرض الوطن، لذلك طولك، صفرٌ في معادلة عتمة الزنزانة، وأمام شاربي المحقق.
اسم الأب، غير مهم، واسم الأم، ضروريٌّ لضبط إيقاع الشتيمة، ونيلها لأكبر جزءٍ ممكنٍ من ثباتكَ وعنفوانكَ وحُلمك.
في هذا الزحام الفوضوي، من فرض أشكالٍ جديدةٍ للحياة، أجملها الموت، وبعد تهالك فكرتها الأولى، وكيف كان يمكنُ أن تحياها بسلامٍ، تحاولُ الإفلات من عنصر الإرهاق المتمثل في كثافة وثقل وحجم الانتظار المقيت، وأنت خارج دائرة التوجيه والقراراتِ المؤثرة، تُمسكُ بقلبك ما تبقى من هواء 2011، تتنفسهُ بعيداً عن خراب الذات بكل أشكال وأسباب ونتائج الحرب الطويلة.
لكنكَ، تُنكِرُ بجسمكَ، وبأجسادٍ تحيا في رطوبة أحقاد هذا العالم، هناك في أقبيةٍ وغُرفٍ مُظلمةٍ، تحت وطأة الموتِ في كلِّ لحظة، تُنكرُ ذاتكَ ومحيطكَ الذي تعوَّدَ على غيابك مُذ خطفكَ العسكر.
وشعور أنَّكَ منسيٌّ، يتَّسِعُ مداهُ مثل عتمة الزنزانة، تلك العتمة التي تصبح عالمكَ الواسع، بلا ملامح ولا أزقة، ولا ساحات ولا حقول، ولا عصافير، ولا سماء.
منسيٌّ يا رفيقي، لأنَّ التجربة لعد كل هذه السنوات من عمر ثورتك العظيمة، من تشكيل وبناء الهياكل الثورية وخرابها، واندثارها، وتشكيل أخرى، بحسب مزاجية اللاعب الدولي، أثبتت بأنَّ القرار الأخير في تقرير مصيرك، لا زال بيد الجلَّاد والدكتاتور ذاته الذي أسقطتهُ أنت منذ أعوامٍ، ورفاقكَ شربوا نخب اعتقالك، واستشهادكَ تحت التعذيب، شربوا دمكَ، ولم يسقط الجلاد بعد .
إلى مَن تبقَّى على قيد الثورة والحرية، إلى المنسيين، سُكَّان العتمة، المعتقلين، لكم ناصية الحياة.
لقراءة الجزء الأول: منهج السجون في دين الطغاة [1] ” من أدبيات السجون “
لقراءة الجزء الثاني: منهج السجون في دين الطغاة [2] – في السجون السورية لا وجود للآلهة
لقراءة الجزء الثالث: منهج السجون في دين الطغاة [3] – من أدبيات السجون، أن تصرخ عالياً، بصمت ..
لقراءة الجزء الرابع: منهج السجون في دين الطغاة [4] – ” من أدبيات السجون “
لقراءة الجزء الخامس: منهج السجون في دين الطغاة [5] – الأسد وريثُ السراج في تعذيب وتصفية معتقلي الرأي
لقراءة الجزء السادس: منهج السجون في دين الطغاة [6] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (1)
لقراءة الجزء السابع: منهج السجون في دين الطغاة [7] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (2)
لقراءة الجزء الثامن: منهج السجون في دين الطغاة [8] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (3)
لقراءة الجزء التاسع: منهج السجون في دين الطغاة [9] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (4)
لقراءة الجزء العاشر: منهج السجون في دين الطغاة [10] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (5)
لقراءة الجزء الحادي عشر: منهج السجون في دين الطغاة [11] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (6)
لقراءة الجزء الثاني عشر: منهج السجون في دين الطغاة [12] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (7)
لقراءة الجزء الثالث عشر: منهج السجون في دين الطغاة [13] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (8)
عذراً التعليقات مغلقة