سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (4)

عمار حسين الحاج24 يوليو 2018آخر تحديث :
عمار حسين الحاج

منهج السجون في دين الطغاة

” من أدبيات السجون “

(9)

يصحو الكون الضيِّق داخل مستوصف المطار على أصوات الجلادين والمساعد (أبو علي الشايب) في اليوم الثالث من تعليقي على عامود (الشبْح) في الحمَّام، تأوهاتٌ مكتومةٌ في قلبي وحولي أيضاً، هناك في الحمَّام أجسادٌ منهكةٌ من التعذيب مثلي ورُبَّما أكثر لقدرتي على رصد ذبذباتِ صوتهم وها أنا أبذل جهداً إضافياً لمعرفة كم معتقلٍ في الحمَّام، أول صوتٍ استطعتُ تمييزه جيداً كان قريباً مني لدرجة شعوري بحرارة جسمه، كان مُعلقاً بجانبي، كيف لم أشعر به من قبل ولا حتى متى علقوه وعذبوه بجانبي، يبدو أني نمتُ أو فقدتُ الوعي لفترةٍ طويلة.

كان يأنُّ وكأنه في غيبوبةٍ، ومن خوفي من أصوات الجلادين خارج الحمَّام وهم يصرخون بأسماء معتقلين جُدد لأنهم يأمرونهم بنزع ثيابهم، طبعاً مع الشتائم الحارقة للروح، فلم أستطع كسر خوفي لأهمس لشريكي في عامود (الشبح) وأبدأ محادثةً طبيعيةً بين غريبين التقوا صدفةً في مكانٍ واحدٍ من هذا العالم وأصنعُ تعارفاً يبدأ بجملة ما مثل ” الطقس اليوم يبدو غائماً قليلاً، ورُبما ستفرح الأرض بمطرٍ مُبكِّرٍ بعد قحط السنة الماضية” ويرد بفرحٍ وهو يغبُّ من سيجارته ناشراً ابتسامته في مشهد عينيَّ تودداً: “نعم أتوقع ذلك” ، فأغلقُ جريدة الأخبار وأتابع تعارفنا الهادئ اللطيف ونحن ننتظرُ الحافلة.

تركتُ خيالي بعد أن أقنعتُ نفسي بأننا ربما روحينا تعارفتا ونحن معلقان ننتظر حافلة الموت، وتابعت بحثي عن المتواجدين في الحمَّام، وفي محيطي الضيق اكتشفتُ أنيناً ليس بالبعيد كثيراً وبمستوى مرتفع بقدر ارتفاع وقوف إنسان وهذا الأنين مختلفُ يشبه شخيراً خفيضاً ومتقطعاً، حاولتُ رفع رأسي للأعلى ليصبح الطرف السفلي الشفيف لعصبة العين بمستوى الصوت واستطعت رؤية خيال شاب عاري مربوط من يديه على سُلَّمٍ معدني في وسط الحمَّام ورأسهُ متهدلٌ لجهة اليسار والأسفل وبدون أي حراكٍ وخيطٌ من الدم نازلٌ من فمه ليصل إلى أسفل ذقنه الشقراء.

مسيحٌ سوريٌّ آخر مصلوبٌ على الطريقة الأسدية بدون صليبٌ خشبي ولا مسامير ولا أصدقاء.

دخل جلادان إلى الحمَّام وأمرني أحدهما بأن أقف على عجلة السيارة، وقفت وفك الشريط النحاسي عن عامود (الشبح) لتسقط يدي من أعلى لترتطم بأسفل ظهري وكأنهما ليسا لي، ومن ارتطامهما بي سقطتُ على الأرض، كان كلُّ جزء مني مُخدر، وكأن الدم توقف عن الجريان في جسدي، وقفتُ رُغماً عن تعبي تحت وابل الشتائم والرفس، ثم قام العنصر بفكِّ قيد يدي والعصبة القماشية عن عيني، ليأخذني إلى مكتب المحقق (الرائد عقبة) بحسب ما دار الحديث بين العنصرين، فطلبت الإذن بالتبول، سمحا لي مع الأمر بالإسراع، واستدرت إلى الخلف ليقع نظري على المسيح المصلوب على السُلَّمِ المعدني وكأنه بلا روح، ولكنَّ جمالَ وجهه لم يتأثر بهذا التعذيب، وحتى نزيف فمه كان جميلاً وشعرتُ بأنه يبتسم لحلمه، أسرعتُ إلى المرحاض، وكان في الحمَّام مرحاضان منفصلان في زاوية الحمام لكل واحدٍ منهما بابً خشبيٌّ مهترئ، كان الأول مفتوحاً لكنَّ القذارة والمياه الوسخة طافية فانتقلت إلى الثاني وكان بابه مغلقاً وفتحت الباب بصعوبة لأن يدي وأكتافي شبه مشلولة، ويا ليتني لم أفتحه، كانت جُثَّةً شاحبةً متكورةً في أرضية المرحاض، ملامح وجهه ناعمة ولا تبدو عليه علائم الحياة، ووقفت جامداً مصعوقاً وأحسست بأنَّ الشلل قد أصاب روحي وليس جسدي فحسب، لحظاتٌ سريعةٌ وقاتلة تلك التي مرَّت بي وأنا أرى لأول مرَّة جثةً أمامي، رأيتُ وجهي يحتل ملامحهُ، رأيت نفسي جسداً شاحباً بلا اسمٍ ولا دماء ولا أحلام ولا تاريخ ولا هوية، ولا حتى رقم، ليسقط على ظهري سوطٌ من الأسلاك الكهربائية المجدولة ببعضها، والجلَّاد يقول لي: “يا ابن الحرام ليش فتحت الباب؟” وأمسكني من كتفي وهو يغلق باب المرحاض بيده الثانية ويأمرني بالتبول في المرحاض الأول، لكنني لم أستطع ففي تلك اللحظة توقف جسدي عن الاستمرار في فِعل الحياة وأضرب عن الاستجابة لأي وظيفةٍ حيوية.

في الطريق إلى غرفة المحقق كان الشحوب يسيطر على رؤيتي، أول مرةٍ أرى الجحيم بلون قماشٍ لعينٍ يحجب عني الرؤية ويخنق ذاكرتي عن تثبيت المشهد، الممر الضيق ملئٌ بالأجساد المشبوحة على أبواب الغرف أو الواقفة باتجاه الجدران والجالسين على الأرض نظرهم باتجاه الجدار وقيدي الأيدي والكلُّ في صمتٍ رهيب، لا تسمع إلا أصوات الجلادين، أوامر وشتائم، وعقلي يحاول إخراج نفسه من مشهد الجُثَّة الشاحبة لصياغة حكايةٍ ما أُقنعُ بها المحقق وأنجو من تجديد التعذيب.

في الطريق إلى غُرفة المحقق كُنتُ أبحثُ عن ظلِّي، فهي فرصتي الذهبية برؤيةٍ واضحة لمسير قدمي المتعثرتين بما أرميه من أحداث وأسماء وتاريخ من ذاكرتي القريبة والبعيدة خوفاً من أن تُغافلني في التحقيق ويراها المحقق، وكم تمنيتُ لو أنني وُلدتُ من هواء ولم يكن لي أصحاب أو أصدقاء أو أحباب، ولم تكن لي ذاكرة تُدينني بكفري بدين الطغاة وشرائعهم التي سحقوا بها كرامة البلد ببشره وحجره …

لقراءة الجزء الأول: منهج السجون في دين الطغاة [1] ” من أدبيات السجون “

لقراءة الجزء الثاني: منهج السجون في دين الطغاة [2] – في السجون السورية لا وجود للآلهة

لقراءة الجزء الثالث: منهج السجون في دين الطغاة [3] – من أدبيات السجون، أن تصرخ عالياً، بصمت ..

لقراءة الجزء الرابع: منهج السجون في دين الطغاة [4] – ” من أدبيات السجون “

لقراءة الجزء الخامس: منهج السجون في دين الطغاة [5] – الأسد وريثُ السراج في تعذيب وتصفية معتقلي الرأي

لقراءة الجزء السادس: منهج السجون في دين الطغاة [6] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (1)

لقراءة الجزء السابع: منهج السجون في دين الطغاة [7] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (2)

لقراءة الجزء الثامن: منهج السجون في دين الطغاة [8] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (3)

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل