منهج السجون في دين الطغاة
” من أدبيات السجون “
(6)
في محافظة حماة، عدة سجون سريَّة، أبرزها المطار العسكري ومعسكر دير شميل واللواء 48، الذي يحوي كتيبة طبية وتم تصفية كثير من المعتقلين وإخفاء جثثهم ضمنه؛ ويبقى أبرز هذه السجون هو المطار العسكري، حيث يُحتَجز المعتقلين في مكانين داخل المطار، أحدهم ملجأ الطائرة أو ما يسمى بـ (الهنكار)، الذي ظلَّ النظام يستخدمه حتى منتصف 2013، والثاني هو مبنى المستوصف والذي مازال يعمل حتى اللحظة.
معتقل مطار حماة العسكري، الذي يشرف عليه الجلادان العقيدان: سهيل الحسن وعلي بعيته، وكان لديهما السُلطة المُطلقة المتوفرة لهما من رأس هرم الحُكم بتعذيب وتصفية المعتقلين، بموجب قراراتٍ يتخذانها بدون أدنى مسوغ قانوني أو أخلاقي. ولديهما عناصر مساعدين ومساعدين أوائل، يخدمون داخل مطار حماة العسكري.. إضافة إلى ما يُطلق عليهم قادة مجموعات الدفاع الوطني (الشبيحة)، وهم عناصر مدنيون متطوعون لخدمة الدكتاتور الأعظم، ميزتهم الوحيدة والمشتركة، هي السادية في الإجرام غير المحدود. وكل قائد مجموعة، مسؤول عن قطاع من مساحة المحافظة؛ أذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر لكثرتهم:
“وريس اليونس” عضو مجلس الشعب، بعد مقتله في بداية العام 2014 استلم مكانه أخوه رجب اليونس، وبعد اتهامه بمجزرة جماعية بحسب سياسة النظام، عندما يُصفي بشكل مباشر أو غير مباشر عناصره التي تنتهي مهامهم، تسلّم مكانه المدعو غزوان السلموني، وهو مسؤول عن القطاع الشرقي للمحافظة. عضو مجلس الشعب “أحمد درويش” وهو قائد إحدى الميليشيات العاملة في قرية أبو دالي ومحيطها في محافظة إدلب، وصولاً إلى محافظة حماة والتابعة لفرع المخابرات الجوية.. مثل المدعو طلال الدقاق المسؤول عن مركز المدينة، وبكري السرميني وشقيقه مسعف من قرية قمحانة، علي الشلي قائد إحدى الميليشيات التابعة للقيادي بقوات النظام سهيل الحسن ويعمل في بلدة عين الكروم التابعة لمدينة السقيلبية، وكلهم على اتصال مباشر مع العقيد “النمر” سهيل الحسن ضمن مطار حماه العسكري). حيث إن مهامهم تشمل حملات المداهمة والاعتقالات للقرى والبلدات الحموية، كما أنهم يقومون بأعمال السلب والنهب، إضافة إلى ابتزاز أهالي المعتقلين، والقيام بأعمال السمسرة للإفراج عنهم مقابل المال، وحيث لا يغفل عنا بأن النمر أحد أكثر عناصر نظام الأسد إجراماً بحق المعتقلين، ويوجد كثير من الشهادات عن موت معتقلين تحت التعذيب بأوامر منه بشكل شخصي ومباشر؛ وكي لا ننسى مَن شارك في سفك الدم السوري، كان النمر يأتمر بأوامر إيرانية، أما الآن، فقد قدم الولاء والطاعة للمحتل الروسي.
في (الهنكار) كان يوضع المعتقلون ليصل عددهم أكثر من 500 معتقلاً في أكثر الأحيان، ويمكن للمرء أن يتخيّل كيف يكون الوضع في فصل الصيف، حيث تصل الحرارة إلى درجات لا يحتملها بشري، بدون ماء ولا طعام، إلَّا القليل النادر، والماء يوزع بالرشفة من كيلٍ قذر، وإذا كان مزاج الحُرَّاس على غير ما يرام، يُحرم المعتقلون من رشفة الماء حتى اليوم التالي، هذا مع عدم وجود أي عناية طبية تُذكر، حتى للحالات المرضية الخاصة، والأهم من كل ذلك، لا يوجد أي نوعٍ من التحقيق، حتى الشكلي منه. فالغرض هو عقابٌ جماعي للسوريين الثائرين مدنياً على نظام حكمهم الدكتاتوري، وبشكلٍ ممنهجٍ وحشي، لا يمكن وصفه ولا بآلاف الكتب وملايين الوثائق والشهادات. فأغلب سُكَّان المحافظة وريفها، قد مَرُّوا من هنا، والذاكرة مكتظَّةً بصور التعذيب والقتل لأتفه الأسباب، ما جعل الكثير من الحالات يفقدون عقولهم من وهْلِ ما رأوه في الهنكار، وهو ما أدى إلى وفاة الكثيرين ممن كانوا يعانون مشاكل صحية تتعلق بأمراض القلب أو بالتنفس، وتركت جثثهم أياماً بين المعتقلين من دون أن يتم إخراجها من بينهم أو تسليمهم إلى ذويهم أو حتى دفنهم.
ومن حديثي مع أحدهم بعد تحويله إلى سجن حماه العسكري بعامين، وكان واضحاً عليهِ بأنه غير سليم عقلياً تماماً، وخصوصاً عندما بدأ يروي لي ما حدث في الهنكار، وكيف كانَ يعذبه الجوع لدرجة أنه كان على استعدادٍ لخسارة أحد أطرافه مقابل رغيف خبز، وكيف استبد به عطش أيامٍ وصار يرى الطريق إلى خزان الماء الموجود في باب الهنكار طويلاً جداً، سيكلفهُ رُبَّما حياته، أو حياة بعض المعتقلين المرتمين في طريقه، وخصوصاً مع نوبات الضرب اليومية التي يقوم بها عناصر لا يوجد في قلوبهم أية رحمة؛ حيث يدخلون الهنكار مثل وحوشٍ ويبدأون بالضرب بالعصي أو الكرابيج أو أنابيب المياه خضراء اللون. والضرب يكون بشكلٍ عشوائي وأينما تأتي الضربة لا يهم، وكلُّ جولةٍ لا بُدَّ أن تُفضي عن استشهاد بعض المعتقلين، فاضطر لشرب مياهٍ قذرة من دلوٍ قريبٍ من مكان جلوسه الضيِّق حتى به، ليُصيبه إسهالٌ شديد، وكانوا يجبرون المعتقلين على قضاء حاجتهم في المكان نفسه (لعدم توافر دورات المياه)، ومن دون السماح لهم بالذهاب إلى أية مراحيض أو أماكن مخصصة لذلك. ولأجل هذا، تم نقله إلى عُمق الهنكار بجانب جدار الهنكار الداخلي، وفي عُرف كل مَن اعتُقِل إصابة المعتقل بالإسهال في الأفرع والسجون السريَّة يعني بالمطلق الموت المؤكد، فبعد الإصابة بالإسهال يبقى على موته ساعات أو في حالات قليلة تمتد الساعات لأيام قليلة، فقد جسمهُ القدرة على الحركة مع سيطرة الكوابيس عليه ليفقد عقله ويهلوس بكلامٍ غير مترابط، ليقوم زملاؤه القريبون منه في عمق الهنكار بإطعامه من حصصهم القليلة عليهم، والعناية بهِ بما استطاعوا حتى نجا من الموت، وأخبرني أنه منذ ذلك الوقت، وحتى اللحظة، يتمنى الموت في كل يومٍ لينسى حجم الألم غير المعقول لفعلٍ وحشيٍّ لا يمكن احتمالهُ، لهُ ولغيره من المعتقلين، ودخل في نوبة بُكاءٍ هيستيري، تجعلنا نشعر بحجم التشويه الكبير الذي مارسهُ الأسد وخدمهُ ليشوهوا دواخلنا وإنسانيتنا، ليجعلَ من موتنا عادياً. بسبب وحشيته نتخلصُ من إنسانيتنا فيقضي على عمق ثورتنا العظيمة، هذا ما سعى إليهِ الأسد عندما فرضَ منهج السجون كقانون فرمٍ بشري، ليعوِّمَ مبدأ القتل والوحشية حتى على الطرف الآخر في معادلة الصراع من أجل الحرية والكرامة.
لقراءة الجزء الأول: منهج السجون في دين الطغاة [1] ” من أدبيات السجون “
لقراءة الجزء الثاني: منهج السجون في دين الطغاة [2] – في السجون السورية لا وجود للآلهة
لقراءة الجزء الثالث: منهج السجون في دين الطغاة [3] – من أدبيات السجون، أن تصرخ عالياً، بصمت ..
لقراءة الجزء الرابع: منهج السجون في دين الطغاة [4] – ” من أدبيات السجون “
لقراءة الجزء الخامس: منهج السجون في دين الطغاة [5] – الأسد وريثُ السراج في تعذيب وتصفية معتقلي الرأي
عذراً التعليقات مغلقة