منهج السجون في دين الطغاة
” من أدبيات السجون “
(12)
من طبائع السجون، أن تبحث عن نافذةٍ يتسللُ منها نظركَ نحو السماء وأن تتخيل الغيوم مقلمةً بالقضبان، أن تشعر بأنَّ الكائنات، كل الكائنات، تحلمُ بالحرية، وأنت تتلصَّصُ على حلمها من بين قبضتي يديكَ التي تلتحم بصدأ المعدن الرهيب، وتجذبُ بها جسدكَ للأعلى، جسدك الذي يقفُ على رؤوس أصابعهِ، بين الوجود والعدم، بين الموتِ والموت.
هذا ما كُنَّا نتمنَّاهُ جميعاً، ونحنُ نحاول علاج أحلامنا بتمسيدها بأطرافٍ مشلولةٍ، أو بحديث مواساةٍ ونحن نفتشُ عن القمل في ثيابنا الداخلية، والتي لا نلبس سواها، فالوقت في جحيم الأسدِ، يشاركُ الجلَّادَ في قتلنا، عندما تتعطَّلُ ساعته ويمرُّ ببطءٍ، مخادعٍ لكينونة الأرض، ودورانها.
فصوت المعتقلين الذين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب، خارج زنزانتنا، كانت أشدُّ إيلاماً لنا من التعذيب نفسه، وعندما تتعرض للتعذيب، تتمنى الموت في كلِّ لحظةٍ، لتنتهي آلامك، أمَّا أصوات التعذيب، وأنت متكومٌ على ذاتكَ في عتمة الزنزانة، يقتلكَ في كلِّ لحظة، ويُحييكَ ليقتلكَ من جديد، كلّ ذلك تشعر بهِ وتختزنه ذاكرتكَ، التي تُخبركَ دائماً، بأنَّ كل شيءٍ ضدك.
أتذكرهُ جيداً، عذبوه بدون أن ينزعوا عنهُ بزتهُ العسكرية (المموهة)، فتحوا باب الزنزانة وصرخ أحدهم لي “استلمو يا حاج”، رغم كلِّ الخراب الذي ينال من جسدي، عندما سمعتُ اسمي وقفت سريعاً ومنتصباً كالمسمار على قدمٍ واحدة، فالقدم اليمنى قد تعفَّنَ جرحها، وبدأت الهالة الزرقاء حولها تتحول إلى السواد، وأسندتهُ على كتفي لخطوتين وارتمينا نحن الاثنين على مكان وقوفنا، وكما يقال في المثل الشعبي “ميت ما بشيل ميت”، وجههُ متورمٌ من الضرب، وعيناه دامعتان، وكالعادة من أول جولة تعذيبٍ هنا، يحصل المعتقلُ على يدين مشلولتين بنسبة ثمانين بالمئة، من الكتفين وحتى أظافر أصابعهِ، وكما حدث معي بعد أول جولة، عندما واساني رجلٌ مسنٌّ، واسيت أحمد ابن مدينة (كفرنبل) عروس الثورة، بعد أن مددتُ رجليَّ وجعلتُ رأسهُ يرتاحُ عليهما، وبيديَّ الفاقدة للشعور، مسدتُ شعرهُ، ليبكي ويتحدثُ عن قصته.
كان متطوعاً في الجيش، في مطار كويرس، وكان على ما أتذكر برتبة رقيب أول، اختصاصه ميكانيك طائرات، وعندما حوصر المطار من قبل الجيش الحر في 2012 ونقل النظام قسماً من حواماته إلى مطار حماة العسكري، انتقل أحمد مع الطواقم المرافقة للحوامات، وبقي في خدمته حتى الخامس من الشهر العاشر لعام 2013، حيث تمَّ اعتقاله والتحقيق معه في مستوصف المطار، الخاص بفرع المخابرات الجوية في حماه، بتهمة تسريب المعلومات عن طلعات الحوامات من حيث التوقيت والوجهة، إلى (العصابات المسلحة) في الشمال السوري.
كان خائفاً جداً، فتهمتهُ تكفل له الإعدام الميداني، وهو يعلم كما قال لي بأنهم لن يصدقوه، وأنَّ هذه الجولة من التعذيب هي الأولى، ولن يتركوه قبل قتله، كان يتمنى الموت، يريدهُ سريعاً وقاطعاً لهواجس التعذيب القادم، لأنه يعرفهم جميعاً، ويعلم أيَّة ثقافةٍ ينتهجون في تحقيقهم الوحشي، يريدون منه أسماءً، ومن أين له بالأسماء، وما فائدتها طالما ليس لها قيمة عندهم، وسوف يقتلونه في آخر التحقيق، لكن على طريقتهم، يجب أن يطبقوا عليه شرع دين الطغاة، بكلِّ حرفيةٍ وساديَّة.
“لماذا يا الله .. لم أقتل أحداً … لم أسرق .. ومنذ أكثر من عامين لا أعرف عن أهلي شيء .. لماذا أخوض بحراً من الوجع .. وأنا العبد الفقير المُسالم .. رفضتُ قتل أخوتي .. هذا ما فعلت .. أليس هذا هو الحقُّ ؟؟ أليس هو ؟!!”
كنت أشعرُ بدفء دموعه على قدمي، وهو يترك الكلمات من فمهِ تركاً، تنزلقُ على حافةِ هذا العالم القذر، الذي لا نرى منه سوى العتمة وأصوات الألم، والقمل الذي يخبرنا بأننا أحياء، على قيد الموت.
لقراءة الجزء الأول: منهج السجون في دين الطغاة [1] ” من أدبيات السجون “
لقراءة الجزء الثاني: منهج السجون في دين الطغاة [2] – في السجون السورية لا وجود للآلهة
لقراءة الجزء الثالث: منهج السجون في دين الطغاة [3] – من أدبيات السجون، أن تصرخ عالياً، بصمت ..
لقراءة الجزء الرابع: منهج السجون في دين الطغاة [4] – ” من أدبيات السجون “
لقراءة الجزء الخامس: منهج السجون في دين الطغاة [5] – الأسد وريثُ السراج في تعذيب وتصفية معتقلي الرأي
لقراءة الجزء السادس: منهج السجون في دين الطغاة [6] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (1)
لقراءة الجزء السابع: منهج السجون في دين الطغاة [7] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (2)
لقراءة الجزء الثامن: منهج السجون في دين الطغاة [8] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (3)
لقراءة الجزء التاسع: منهج السجون في دين الطغاة [9] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (4)
لقراءة الجزء العاشر: منهج السجون في دين الطغاة [10] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (5)
لقراءة الجزء الحادي عشر: منهج السجون في دين الطغاة [11] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (6)
عذراً التعليقات مغلقة