منهج السجون في دين الطغاة
” من أدبيات السجون “
(3)
في المدخل إلى باب حجز الحرية، يجب علينا بدايةً أن نستوضح تعريف الحرية.
يقول هوبر: «إن الحرية هي انعدام القسر، وكل فعل يتم وفقاً لدوافع حتى لو كان الدافع هو الخوف من الموت يُعدُّ حراً، والإنسان يكون حرّاً بقدر ما يستطيع التحرك على طرق أكثر وحرية المواطن والعبد لا تختلف إلا من حيث الدرجة، فالمواطن ليس تام الحرية والعبد ليس تام العبودية».
والحرية أن يملك الشخص القدرة والصلاحية في الفعل أو الكلام أو التفكير كما يريد دون أيّ ضوابط أو حدود وليس بالمطلق وإنما كمفهوم أخلاقيّ واجتماعيّ، وهي مَطلبٌ وضَرورةٌ حياتيّةً لا تستقيم حياة الفرد إلّا بوجودها؛ وتشغلُ الحيِّز الأكبر من عقل الإنسان وتفكيره لأنها ذات قيمة إنسانيّة مُقدَّسة.
هي قُدرة الأفراد على مُمارسة الأنشطة التي يُريدونها دون إكراه، على أن يخضعوا للقوانين التي تُنظّم المُجتمع؛ وقد ورَد في إعلان حقوق الإنسان الصّادر عام 1789م على أنّه: (حقّ الفرد في أن يفعل ما لا يَضُرّ الآخرين)، وتعني أنه بالفطرة يمارس الإنسان حريته التي أعطيت بموجب القوانين في اتخاذ ما يراه مناسباً من أقوال وأفعال، فالإنسان حر شرط ألا تؤذي حريته الآخرين وامتلاكها لا يعني أن تكون غير مسؤولاً عن تصرفاتك، وعلى العكس، إن كانت تصرفاتك قسرية، فقد تصبح غير مسؤول عنها، وبشرح أوسع قليلاً:
للفرد كامل الحرية في الترشح للانتخابات والتصويت فيها لمن يرغب من المرشحين، ويحق له حرية الاعتقاد وممارسة الديانة التي يؤمن بها من دون تدخل من الآخرين، وله الحق في امتلاك حرية الرأي والتعبير، وهي تسمح للجميع بالتفكير والتعبير عن أفكارهم، دون رقابة في سياق النقد البنَّاء وكشف جرائم السلطة بحق المجتمع، والتنظير أو الترويج لأي فكرةٍ لا تسوِّق إلى إلغاء أو إهانة أي مكون في المجتمع. ولكل فرد الحق في اختيار عمله، وبالتالي، الحصول على الدخل، ويمكن التنازل عن عمله متى شاء، ولا يجوز حرمان أحد من العمل لأسباب أخرى غير المؤهلات المهنية (مثل الجنس أو العرق أو السن أو الدين).
من هذا السرد البسيط لما قيل عن مفهوم الحرية، نستطيع القول بأنها حاجةٌ فردية وجماعية، مرتبطة ارتباطاً ضمنياً وظاهرياً بالمسؤولية من حيث ما تمنح الإنسان إدراك خير الفرد والمجموع والسعي لخلق أدوات تطبيقها، وإخراج الحرية من حالة شعار فارغ مضموناً، إلى حالة عامة وثقافةً جمعية منسجمةً مع تطور المجتمعات عموماً، فبقدر ما تمنحكَ الحرية حقوقاً بقدر ما تُحَمِّلَكَ واجباتٍ تستطيع أو لا تستطيع تَحملها.
وهذا ما يجعل سلطة الاستبداد تَحُدُّ من قدرة الإنسان على القرار والاختيار وتُعَوِّده قسراً على حُريَّةٍ بمقاس مصالحها في احتكار السُلطة .. وهذا يؤدي بنا للقول بأنه لا يمكننا الادِّعاء بأننا أحرارٌ في تبني فكرةٍ ما، ونحن لا نملك الوسائل والأدوات اللازمة لتحقيقها، فحيثُ تنعدمُ الوسائل، تكون الحريَّة معدومة على مُطلقِ المُستَبدِّ.
وهنا يتّضح هدف المستبد من حجز حريَّة المواطنين الذين يسعون ويعملون للحصول عليها لهم ولمجتمعهم، لأنها العدوُّ الأصيل للاستبداد بكل أشكاله، وهي السبب الرئيس في تشكيل الحالة المجتمعية الإنسانية.
وهي الحرية التي أردناها منذ سبعة أعوامٍ، فكان الردُّ من الدكتاتور الحاكم مئات آلاف المعتقلين والمغيبين قسريَّاً والشهداء تحت التعذيب ضمن منظومة السجون والأفرع الأمنية في أقذر حربٍ على المطالبين بالحُريَّة على مرِّ التاريخ.
وهنا لم يكن حجزاً للحرية بمعناه الظاهر بقدرِ ما كان كسراً وإذلالاً للنفسية العامة للشعب الثائر على الدولة الأمنية والعسكرية، حيث يتحول الصُراخ العلني بالأدوات الممكنة (صحافة، أجناس الأدب، الرسم، الاحتجاج المدني، النشاطات التوعوية) يتحول هذا الصُراخ بعد حجز الحُريَّة إلى صُراخٍ ضمنيّ بصمت ظاهر، خلفَ قضبان وأبواب الزنزانات المعدنية، وهذا الصَمتُ الصارخ في أروقة نفوس المعتقلين يحمي الفكرة من الانكسار والتردي، ويُصَعِّد الوعي بالحاجة لها أكثر من الماء والهواء، ويُرَسِّخ في عقولهم شغف وإمكانية البحث عن الأدوات والوسائل للحصول عليها، ويُحَرِّك في عقول وقلوب أفراد المُجتمع بمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية، وحتى الإنسان البسيط فكرياً، زوبعةً من الأسئلة بين النقد واللوم والصُراخ عالياً وبين الرضا والخنوع والصمت وهذا ما يحدث في الأغلب، أسئلةً توثيقية للصراع مع السُلطة بالوعي والفعل، أو بالوعي فقط، فتراكمية الوعي ستولّد الانفجار، ولكن على الأقل تحتفظ الذاكرة الجمعية بأنَّ أناساً طالبوا بحقوق الجميع ودفعوا ثمن مطالبتهم لولي الأمر بحقوق شعبهم، ويتكون تدريجياً وعيٌّ جمعيٌّ على عدة حوامل للفكرة بين مع أو ضد، أما المعتقلون يمتهنون تدريجيَّاً داخل المعتقل، الاعتناء وتغذية الذاكرة، ذاكرتهم هي من سيروي الحكاية كاملةً، بعدما صاروا داخل وفي عُمق هذه المؤسسة يلمسون كيفَ تُدارُ بوقاحةٍ وساديَّةٍ في التعذيب والقتل، وخصوصاً في الأفرع الأمنية والسجون السرية، وأقتبس من الكاتب “فيودور دوستويفسكي” _ ما يوضح مقدار القهر النفسي والفِعل العظيم عندما يحافظ المعتقل على توازنهِ الداخلي _ حيث يقول:
“إن السجين لا يستطيع أن يخلو بنفسه دقيقة واحدة، وهذا عذاب رهيب بأن لا يمتلك لا حريته ولا وحدته”.
ويتم تصدير حكايات عن ما يحدث في تلك الغُرفِ المظلمة إلى عموم الشعب برسائل مباشرة أو غير مباشرة عبر الناجين من جحيم الأفرع الأمنية والسجون السِّرية، لترهيب وتخويف من تُسَوِّل له نفسه بالتمرد على السُلطة الحاكمة، ليعود إلى قاعدة الصمت والتسليم والتصالح مع فكرة (لن أنساكَ أيها المُعتقل، ولكن لا أريد اللحاق بك إلى ذات المضي).
وهذه الأفرع والسجون لها طُرق مختلفة في كيفية التعاطي مع منهج التعذيب والتغييب القسري المؤقت (توقيف عُرفي تقصر أو تطول مدتهُ) أو الدائم (تصفية المعتقل مع إخفاء الجثة وعدم الإعلان عن الموت).
“وسأفرد في مواد قادمة بعض الأمثلة عن هذه الأفرع وكيفية التعامل داخلها مع المعتقلين، عبر شهاداتٍ لناجين من الاعتقال.”
وفي المُحصلة، لا يمكن لأي مجتمعٍ أن ينهض ببلاده نحو أن يحيا حياةً صِحيَّةً وسليمة بدون أن يحصل على حريتهِ، قبل حصوله على أي مقوم من مقومات الحياة، ولا تنفع أي حلول اقتصادية أو سياسية مؤقتة تكون مثل الدواء المُسَكِّن، وإنما التغيير الجذري والقضاء على وباء الاستبداد، هو الحل الوحيد باتجاه النهوض بالمجتمع.
عذراً التعليقات مغلقة