يوحي كلام الرئيس الأمريكي ترامب بطريقة استعراضية خلال استقباله الأمير محمد بن سلمان وكأنّ المال السعودي سينقذ الاقتصاد الأمريكي ويحل مشكلة البطالة في الولايات المتحدة. “السعودية بلد ثري جدا، ونأمل أن تعطي الولايات المتحدة بعضا من ثروتها من خلال شراء أفضل المعدات العسكرية في العالم وخلق وظائف جديدة”، بهذه الكلمات التي تشتم منها رائحة الابتزاز وكلمات إطراء نادرة من مسؤول سياسي مثل “أنت أكثر من ولي للعهد”، استقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب “صديقه العظيم” ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في البيت الأبيض خلال زيارة الأخير للولايات المتحدة على مدى أسبوعين. ووصف ترامب العلاقات بين الطرفين في عهد بن سلمان ووالده بأنها أقوى من أي وقت مضى وأن “المملكة من أكبر المستثمرين في سندات الخزينة وتشتري السلاح بمبالغ طائلة وتخلق عشرات آلاف فرص العمل”. وتلخص كلمات ترامب نظرة إلى المملكة وكأنها بنك يعطيه الشيكات على بياض على أن يحدد هو قيمة الصفقة وتاريخ الدفع.
صفقات جديدة بعد صفقة أسطورية
قدّر الأمير محمد بن سلمان نفسه قيمة الصفقات التي سيتم الاتفاق عليها خلال زيارته الحالية بنحو 200 مليار دولار. وحسب الاستعراض الذي قدمه ترامب حتى الآن فإن جل هذه الأموال مخصصة لشراء الأسحلة وتصنيعها وصيانتها وتطويرها إلى الحد الذي يجعل ميزانية التسلح السعودية السنوية تزيد على مثيلاتها الروسية أو الألمانية. وتبلغ قيمة ميزانية المملكة العسكرية نحو 80 مليار دولار في عام 2018 مقابل أقل من 50 مليارا لكل من روسيا وألمانيا. وخلال زيارة ترامب للسعودية في مايو/ أيار 2017 اتفق مع ولي العهد السعودي ووالده على “صفقة أسطورية” بقيمة تتراوح بين 450 ألى 500 مليار دولار تشكل مبيعات الأسلحة الأمريكية حصة الأسد منها. أما القسم المتبقي فجله استثمارات سعودية في الولايات المتحدة بهدف خلق الوظائف وفرص العمل. يومها قال ترامب وهو في غاية النشوة عن الزيارة والصفقة: “كان يوما هائلا.. مئات المليارات من الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة ووظائف، وظائف وظائف …”.
صفقات ترامب تلتهم الاحتياطات
يعرف ترامب كرجل أعمال جنى المليارات قبل أن يصبح رئيسا من أين تؤكل الكتف بشكل عام والكتف السعودية بشكل خاص على مايبدو. وإذا ما ترجمنا ذلك إلى واقع المال والأعمال فإن قيمة صفقاته مع المملكة حتى الآن تزيد على قيمة ما تبقى من الاحتياطات السعودية الحالية المقدرة بأقل من 500 مليار دولار. وعليه فإن أول سؤال يتبادر إلى الذهن، ماذا سيحل بمشاريع “رؤية 2030” التي طرحها ولي العهد الشاب لتحديث المملكة ونقلها من دولة نفطية إلى دولة متعددة الموارد الاقتصادية؟ من أين للأمير بالأموال اللازمة لتمويل مشاريع الرؤية التي تقدر تكلفتها بحوالي 2000 مليار دولار وفي مقدمتها مشروع “نيوم” بتكلفة 500 مليار دولار والسياحة بتكلفة 10 مليارات؟ وهناك مشاريع تحديث البنية التحتية والخدمات العامة في عموم المملكة بتكلفة تزيد على 200 مليار دولار. يضاف إلى ذلك عجز الموازنة بحوالي 50 مليار سنويا وتكاليف حروب اليمن وسوريا والعراق وغيرها بالمليارات شهريا. وهناك حاجة لبناء نظام ضمانات وشبكة أمان اجتماعية تشمل نصف السعوديين، أي 10 ملايين سعودي من الفقراء ومحدودي الدخل في حال أقدمت المملكة على الاصلاحات الاقتصادية المطلوبة. وعلى الرغم من أهمية أموال الفساد التي تمت مصادرتها من الأغنياء والمسؤولين بقيمة 100 مليار دولار وتوقع توفير 100 مليار أخرى من أسهم أرامكو، فإن الأموال اللازمة لمشاريع الرؤية أكبر بكثير من ذلك وليس من الواضح كيف يمكن توفيرها على ضوء الصفقات مع الولايات المتحدة أو العم سام.
ترامب لا يستطيع المساعدة!
بناء على ما تقدم سيثير طرح الجانب الاقتصادي من”رؤية 2030″ بالشكل الذي تم طرحه حتى الآن الكثير من الجدل والشك والريبة مستقبلا، لأن مصادر التمويل لمشاريعها لا تبدو مضمونة. ويرجح وجهة النظر هذه حقيقة أن القطاع الخاص المحلي والأجنبي يخشى حتى الآن من الاستثمار في السعودية بعد مصادرة أموال ناتجة عن صفقات فساد قام بها مسؤولون وأمراء ورجال أعمال كانوا من أركان النظام السياسي والاقتصادي على مدى عقود. أما الصفقات التي تم التوقيع عليها مع الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى فإنها في معظمها صفقات تجارية ذات طابع عسكري لا تخلق فرص عمل كثيرة في السعودية التي يعاني شبابها من بطالة متفشية. كما أن هذه الصفقات ليست مهمتها تحديث الاقتصاد السعودي وجعله أكثر تنوعا. ويتوافق مع هذا الاستنتاج رأي الكاتب السعودي جمال جاشقجي بأن ترامب نفسه لا يستطيع دفع الشركات الأمريكية للاستثمار في السعودية، مضيفا في حديث مع DW أن “إقناع الشركات الأمريكية بالمجيء إلى المملكة من أجل الاستثمار من مهام الأمير”. لكن السؤال كيف يقدر الأمير على ذلك في بيئة لا توفر الإطار القانوني المستقبل والشفاف والكفاءات المؤهلة والمدربة ؟
استنادا إلى ذلك، من المرجح تعديل “الرؤية” على ضوء التطبيق الذي سيشهد التعثر هنا والنجاح هناك. ومن المرجح أن ذلك سيعني التركيز على بعض مشاريعها الملحة وعلى مزيد من الإصلاحات الاجتماعية التي شملت حتى الآن بعض القرارات الجريئة المتعلقة بحرية المرأة وحقوقها. ومن بين المشاريع التي سيتم التركيز عليها المطارات والطرق الرئيسية والصناعات النفطية التحويلية والسياحة واستخراج الغاز وتصنيع مواد أولية أساسية كالحديد ومعادن أخرى تزخر بها أراضي المملكة.
الأولوية ليست للرؤية
يطمح الأمير الشاب لتثبيت دعائم حكمه مدى الحياة حسب ما جاء في مقابلة له مع قناة “سي بي إس” الأمريكية. يأتي ذلك في وقت تواجه فيه مملكته تراجعا في إيراداتها المالية مقابل تحديات اقتصادية وسياسية متزايدة مع استمرار تراجع أسعار النفط وتفاقم الحرب في اليمن. غير أن التحدى الأكبر الذي تواجهه حسب رؤية ولي العهد نفسه هو مواجهة النفوذ الإيراني الزاحف في منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا فإن الأمير يريد من صفقاته مع الولايات المتحدة دعم الأخيرة الكامل في مواجهة هذا التحدي مقابل الصفقات التجارية الأسطورية التي اتفق عليها مع ترامب وعائلته. ومما يعنيه هذا الدعم شراء أحدث الأسلحة الأمريكية وبناء 16 مفاعلا نوويا على غرار المفاعلات الإيرانية. أما المشاريع الاقتصادية الهامة ولكن غير الملحة في “رؤية 2030” فيمكن تأجيلها إلى حين.
Sorry Comments are closed