مع توقف أصوات الرصاص، ودأب ثوار الحرية، عادت المظاهرات للخروج مرة أخرى في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد، وظهرت مؤشرات على انفجار مستقبلي في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، ففي حمص حاصرت قوات النظام ولمدة أربعة أسابيع متتالية مساجد في المدينة مخافة خروج مظاهرات، وفي درعا خرجت وقفات احتجاجية وفي غيرها وغيرها، أي أن المجتمع مازال محتقنا ولم يستطيع النظام ولا جميع من جلبهم من مختلف أنحاء الأرض إسكات الصوت المطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية.
في المناطق المحررة كانت المشاركة الشعبية الكبيرة لافتة للنظر، ومحرجة للجميع، نظاماً واحتلالات، وأعادت التذكير بأن هناك شعباً لديه مطالب محقة، شعب يطمح لدولته الديمقراطية وليس مجموعات إرهابية مسلحة كما كان النظام وحلفاءه وأعداء الربيع العربي يصفون الثورة السورية، وأعادت هذه المشاركة الحيوية للشعب والروح الثورية التي دفنت تحت أطنان المتفجرات والبراميل والصواريخ التي أطلقت على صدور الشعب السوي كي يستكين ويتوقف عن مطالبه في الحرية والديمقراطية.
هذا النشاط جعل البعض ممن لم يتعلم من أخطاء الماضي يكرر تلك الأخطاء، فهناك من لا زال يحلم بالهيمنة على النشاط واستغلاله لتحقيق أغراضه السياسية الضيقة، لهذا هرول لاختراق التنسيقيات الوليدة عبر محاولات شراءها بالمال السياسي القذر، وقد حذرت في مقالتي الماضية (إدلب في عين العاصفة [2/2]) من مغبة هذا الأمر ونبهت لضرورة تحويل المناطق المحررة لمثال يحتذى عبر نشر الحريات السياسية وإعادة النشاط السياسي للمجتمع بعد تغييبه لسنوات طويلة من قبل العسكر، وذلك عن طريق السماح للأحزاب بالنشاط، وحل التنظيمات الإرهابية المتطرفة، وأولى خطوات الحل تكون عبر سحب الأهالي لأبنائهم المقاتلين في تلك التنظيمات، وتنشيط الصحافة الحرة، وتنفيذ انتخابات إدارة محلية ديمقراطية بإشراف الأمم المتحدة نفسها لنستطيع إيجاد جهة تمثيلية حقيقية للمناطق المحررة بعيداً عن أجندات الدول والتنظيمات المختلفة التي يسعى جميعها لتحقيق مصالحه الضيقة على حساب الوطن.
وهناك من لم يتعلم من أخطاء الماضي عبر الاستمرار في عقلية الشعاراتية، وكنت قد تحدثت مطولاً في مقالتي (إنقاذ إدلب ليس بالشعارات) عن عقلية الشعاراتية، ونبهت من خطورة هذه العقلية على الروح الثورية التي ستخبو مع تكرار رفع شعارات لا نستطيع تنفيذها.
أيضاً هناك من لازال يعيش في عقلية الصراع، ويعتاش على دفع الحركة الوطنية نحو الانقسام، وكلنا يذكر كيف دفع المتظاهرون بعد انطلاق الثورة بأشهر من قبل تنظيم الإخوان المسلمين المهيمن على صفحة تسمية أسماء الجمع وحلفاء التنظيم للصراع وتقسيم الحركة الوطنية، وبدلاً من أن يتم التركيز على نظام الأسد وتقوية وحدة المعارضة السياسية والشارع الثوري، انشغلوا بصراعاتهم الداخلية على الهيمنة والتمثيل، وأطلقوا جمعة هيئة التنسيق لا تمثلنا، ثم وبعد سنوات من التسمية والتخوين أصبح مطلقو التسمية زملاء في الرياض 1، ولازلت أذكر كيف تم رفض تشكيل لحنة متابعة في المؤتمر الوطني للمعارضة والثورة السورية الذي عقد في القاهرة في 2012 بدفع من المجلس الوطني المهيمن عليه اخوانياً كي لا يتم سحب البساط والتمثيل من قبل هذه اللجنة التي تضم كل الفعاليات السياسية والثورية والعسكرية الموجودة بشكل حقيقي على الأرض.
هذا الصراع وتفتيت الحركة الوطنية كان في أوج صعود النشاط الثوري، وأدى لنافذة دخلت منها الدول المختلفة لتقوية فريق على حساب فريق آخر، وبدلاً من الانشغال برفع شعارات وطنية تعبر عن رقي الشارع الثوري وعراقة الحضارة السورية، رفعت شعارات صراعية تعكس الخلاف والرغبة بالهيمنة، فاعتقدت هيئة التنسيق أن الحل في روسيا وإيران، واعتقد المجلس الوطني أن الحل لدى الغرب، وحاول كل فريق منهم الاعتماد على الخارج لتقوية موقفه في مقابل الفريق الآخر، ونسي الجميع الشارع الثائر ومخيمات اللاجئين وتركوه بين أنياب اللئام، بين سندان الإرهاب ومطرقة مكافحة الإرهاب.
عذراً التعليقات مغلقة