منهج السجون في دين الطغاة
” من أدبيات السجون “
(10)
رغم كل الألم المتوهج في جسدكَ، وروحك، تُحاول دائماً أن تُراهن على آدمية مَنْ يُعذِّبونكَ، ويمارسون عليكَ جسدياً وروحيَّاً، طقوس دين الطغاة، فتُصاب بالخيبات، ورُهاب حجزك مع تلكَ الوحوش الغبية، _المتطورة من حيث اكتسابها بكلِّ الأشياء الجميلة في حياتك، وحتى أملك بالغد، إذا منحكَ الجلاد بفرصةٍ لرؤية الغد_ في عتمةٍ لا حدود لها سوى موتك.
في تحليل البنية النفسية لعناصر هرم السُلطة، نصطدم بواقعٍ يصعُب علينا تصديقه، مليء بالتشوهات من حيث حجم الأدوات البشرية التي يستخدمها عناصر الصَّف الأول للسلطة في تطبيق وتنفيذ، وترسيخ سياستها، وهي تشوهات إنسانية يتم صنعها بمهارةٍ عاليةٍ في مختبرات النظام القمعي، وزرعها من ضمن المكتسبات الشخصية لشريحةٍ كبيرة من المجتمع، كحالة بناء طبيعيةٍ للإنسان (الوطني) بحسب تعريف السُلطة للوطن والوطنية، ونقد الفكر المضاد بالتخوين والعمالة، وإباحة إلغائه، ولبناء هذه الشريحة لا بدَّ من وجود أهم عامل، وهو عامل الوقت.
في النتيجة، نحصلُ على موظفين مُطيعين ومؤمنين بدين الدكتاتورية، فالجلَّاد عندما يقوم بتعذيب معتقلين (خونة) بحسب مفهوم وقانون رأس هرم السُلطة، هو يمارس وظيفة طبيعية، والجندي الذي يقوم باستخدام سلاح الجيش، بقتل مدنيين، وتعفيش ممتلكاتهم وتدمير أرزاقهم، فقط لأنهم يخالفون سياسة السُلطة الدكتاتورية، هو يقوم بواجبهِ الطبيعي الذي اكتسبهُ تربيةً وتنشئةً، ويصبح هذا الشذوذ الإنساني، حالة وتطبيق واضح لمفهوم الوطنية، وهكذا تكتمل دائرة نظرية النظام وتطبيقها واستخلاص نتائجها، في إبقائه على رأس هرم السلطة السياسية والاجتماعية، وفِعل كل ما يمكن فعله في سبيل أبدية الحاكم.
ونحن كشعوبٍ ترزح تحت سلطة الدكتاتوريات، والقمع، قد ورثنا وهم مراقبة السلطة الأمنية، وأنَّ لديها القدرة للوصول لكل تفاصيل حياتنا، وتستطيع قراءة الأفكار التي نخاف التعبير عنها، ولم يتكون لدينا أي تصور عن امتلاك هذه الدكتاتوريات للذكاء والفطنة في الاحتكاك والتعامل مع شعوبها، وإنما تسيطر بالقوة والعنف الجسدي.
ومثال على تلك الأدوات البشرية التي يستخدمها الطغاة، في إرساء شعائر دين الدكتاتورية، أثناء ذهابي إلى مكتب المحقق والعودة إلى حمَّام التعذيب أو إلى الزنزانة، والذي تكرر عدة مرات، وبين إزالة عصبة العين، وإعادتها، رأيت وجه عنصرٍ أعرفه من قبل، يسكن في الحي نفسه الذي أسكنه أنا، أعرفه متطوعاً في الجيش، وفي المساء يعمل كسائق تاكسي أجرة، هذا الرجل من العناصر التي تنفذ أوامر المحقق والجلادين (برتبة مساعد أول)، من تعليق المعتقلين على عامود الشبح، أو الشبح على أبواب الزنزانات، وتوزيع الطعام، وتوزيع الموقوفين على الزنزانات، وما أعرفهُ عن هذا الرجل هو الهدوء واللطف الذي أراه منهُ يومياً ما بين الساعة الرابعة والخامسة عصراً، عندما يكون عائداً من وظيفته في الجيش ويمر أمام بيتي ويُلقي التحية، أردُّ عليه بتحبُّبٍ، بسبب ما أراه من خجلٍ واحترامٍ شديدين باديين عليه، لكن عندما رأيته في مطار حماه، لم يبادرني بالتحية، وإنما انتفض في مكانهِ وكأنه أصيب بتيارٍ كهربائي، نظر صوب الأرض، أوصلني إلى زنزانتي، ومضى وهو بكامل الصمت واحمرار الوجه.
قبل هذه اللحظة لم أكن أعلم بأنه مشاركٌ في تعذيب أبناء بلدي الأحرار، كما يقوم الآن معي، وأنه ينفِّذُ أو على الأقل هو شاهدٌ على عمليات القتل تحت التعذيب،، ومن ثمَّ يعود إلى حياةٍ طبيعيةٍ جداً (منزل، أسرة، زوجة وأطفال، جيران، عصامية ابن الحارة) وكأنه يعمل في وظيفةٍ مكتبيةٍ في إحدى الدوائر، وظيفة لا تُلغي حيوات بشرٍ آخرين لأجل إرضاء السُلطة، وتدفعُ الكون نحو الانفجار قهراً.
بدأت الأسئلة تدور في عقلي، وتؤرقني في فهم المحيط المُظلم، المتعدد الوجوه للشركاء في الوطن، في محاولةٍ يائسةٍ للبحث عن إجاباتٍ تخلق عندي وعي المرحلة، في الساعات التي رُبَّما تكون الأخيرة لي في هذا السباق القسري نحو الموت.
لقراءة الجزء الأول: منهج السجون في دين الطغاة [1] ” من أدبيات السجون “
لقراءة الجزء الثاني: منهج السجون في دين الطغاة [2] – في السجون السورية لا وجود للآلهة
لقراءة الجزء الثالث: منهج السجون في دين الطغاة [3] – من أدبيات السجون، أن تصرخ عالياً، بصمت ..
لقراءة الجزء الرابع: منهج السجون في دين الطغاة [4] – ” من أدبيات السجون “
لقراءة الجزء الخامس: منهج السجون في دين الطغاة [5] – الأسد وريثُ السراج في تعذيب وتصفية معتقلي الرأي
لقراءة الجزء السادس: منهج السجون في دين الطغاة [6] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (1)
لقراءة الجزء السابع: منهج السجون في دين الطغاة [7] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (2)
لقراءة الجزء الثامن: منهج السجون في دين الطغاة [8] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (3)
لقراءة الجزء التاسع: منهج السجون في دين الطغاة [9] – سجون العسكر السريَّة، مطارُ حماة العسكري (4)
عذراً التعليقات مغلقة