سوريا في ظل أبناء القهر

فريق التحرير21 يونيو 2016آخر تحديث :
سوريا في ظل أبناء القهر

رعد أطلي

* رعد أطلي

لا يمكن أن يطلق على أي حدث تاريخي اسم “الثورة”، إلا إذا كان انفجاراً اجتماعياً ينتفض فيه الشعب ضد الدولة القائمة مقررين نسفها، ويشترك في هذا الحدث المرعب مختلف شرائح الشعب من المثقفين والعوام والأكاديميين والحرفيين والمدينيين والريفيين والمتدينين والملحدين وغيرهم.
وتختلف المستويات الثقافية وتختلف معها طريقة ومنهجية العمل في الثورة، إلا أنه من الممكن أن ينقسم المشاركون في الثورة إلى شريحتين رئيسيتين يجعلان من كل ثورة ثورتين، فما من ثورة في التاريخ إلا واستتبعتها أخرى تنفجر عليها نفسها لتصيغ أهدافها الأولى برنامج عمل للمستقبل بعد أن تكون في مرحلتها الأولى قد ضربت بها عرض الحائط، والثورتان هما: ثورة التغيير، وثورة القهر.
ينطلق الناس في الثورة وهم محملون بشحنتين متناقضتين، الأمل والقهر، الحب والحقد، وأي منهما تتغلب على الأخرى تضع صاحبها في خانة الآملين في التغيير، أو المحقونين قهراً، فالثائر من أجل التغيير عادة يمتلك برنامجاً معيناً يسعى للوصول إليه بأقل الخسائر التي قد تنتجها الثورة، وذلك لأن لديه مشروعاً خاصاً بعد الثورة، وهو الذي انتفض فيها بالأصل حتى يحققه، وهذا المشروع عادة يحتاج البناء، أي يحتاج أقل قدر من الدماء ليوفر الفرص الأوفر للاستقرار مستقبلاً، وأكبر قدر من الإمكانيات المتوفرة في مرحلة ما بعد أن تتم الثورة مهمتها، ولذلك يجنح لكل الأدوات الأكثر أماناً حتى تلك المستخدمة ضد النظام القائم سابقاً، فمن الطبيعي أنه سيضرب قدر استطاعته بمطرقته ذلك الجدار القائم ليهدمه، ولكنه يسعى للحفاظ على ما يمكن الاستفادة منه مستقبلاً من أجل مرحلة التغيير، أي أنه لا يلجأ إلى ما يمكن أن نسميه “الابتذال العنفي”.
ويمتلك عادة الطامحون في التغيير حلول كثيرة لمرحلة ما بعد الثورة، لأن تركيزهم منصب بالدرجة الأولى على تلك المرحلة. إلا أنه يواجه جماعة التغيير في الثورة عوائق عدة لعل أولها نقمة ما يعتبرونه نعمة، فبتركيزهم على مرحلة ما بعد الثورة، واعتبارهم الجميع يحلم بما يحلمون به تتفلت منهم خيوط اللعبة في ازدحام المقهورين في الثورة، ولا يستطيعون إمساكها ثانية، ويشعرون بالغبن كما لو أنهم خُدِعوا، والحقيقة أنهم هم من خدعوا أنفسهم بتصورهم للمجتمع، فمجتمع يطمح كل من فيه للتغيير وبنفس الاتجاه يكون على سوية ثقافية توفرها بيئة لا تحتاج إلى ثورة أساساً، ولن تنطلق ثورة في مجتمع ما حتى يصل القهر فيه حده النهائي، حيث يفضل فيه المقهورون الموت على البقاء تحت قيود قهرهم.
العائق الثاني الذي يقف أمامهم يتعلق بأصحاب التغيير أنفسهم، فليس بالضرورة أن يتفقوا على مشروع تغيير واحد، فقد يكون هناك أكثر من تصور لعقد ما بعد الثورة، مما يخلق أزمة صراع حقيقي في وسط الثورة يفوز فيه بداية من يستطيع الاستفادة من غضب المقهور وتطويعه لصالحه.
العائق الثالث يكمن في أن الثورة بماهيتها ترفض التفكير في المراحل اللاحقة، والذي يدفع أهل التغيير كما أسلفنا لتوفير أكبر قدر من الدماء والإمكانيات للمرحلة القادمة، فوقود الثورة الدماء، ونيرانها جائعة لا يشبعها إلا أن تحرق الأخضر واليابس، لذلك يشعر الثائرون طلباًَ للتغيير بأنهم غرباء في مراحل يكون فيها السعار الدموي هو العنوان الرئيسي لها. فتراهم منكفئين تارة، وتارة أخرى يجهرون ضد ما يحصل داخل دوامة الدم لكن دون سلطة تمكنهم من مواجهة تلك الدوامة، فالسلطة حينها تكون للمقهورين، مما يدفعهم إلى الاستسلام أو التنازل للمقهور أو غيره من خارج محيط المجتمع من أصحاب المصالح آملين بتغيير ما يقع على أيديهم، لكنهم يكونون مرة أخرى يخدعون أنفسهم، فلا المقهور سيولي التغيير قيمة في يوم من الأيام، ولا صاحب المصالح سيلبي دعواتهم وهو الذي لا يتفق إلا مع القوي، والذي حينها يكون المقهور.
أما المقهورون فهم هؤلاء الذين قد يحلم بعضهم بالتغيير، في حين يرى جلهم الخلاص من النظام غايته الأسمى، ويسعى المقهور بكل ما أوتي من قوة لتدمير خصمه، وتدمير كل من يقف في وجه طوفانه ضد النظام، حتى ولو كانوا زملاء الثورة الأوائل، ولا يملك هؤلاء خطة ما لما بعد الثورة، بل لا يفكرون في إنهائها أصلاً، يأتون محملين برغبة الانتقام أكثر من أي شيء آخر، ويرون في “الابتذال العنفي” قمة طهريتهم وتقربهم من ثورتهم، ويضعون ضحاياهم البشرية قرباناً لها، في حين يعملون السلب والنهب بكل ما يكون سابقاً تحت أيدي النظام القائم معتبرين أن كل ذلك ملك للدولة، وليس للمجتمع، ويصبح شرعياً بالنسبة لهم نهبه على أن نهبه إضعاف للعدو، ويزيدون مع كل مرحلة جديدة قوة توفر لهم مزايا تجمع الناس من حولهم، هؤلاء الناس الذين يبحثون عن الأمان والحماية مرتدين منتكسين لأفكار لا تناسبهم ولا يؤمنون بها سابقاً، لكن إيمانهم بها حالياً ينبع من التشارك مع الآخرين في قهرهم ورغبتهم بالانتقام، مما يؤهل أبناء القهر لبناء مملكتهم ونظامهم الخاص، ولا ينتج عن حكم المقهور سوى أنظمة أكثر قهرية، وأشد قمعية تتماهى مع النظام الذي انتفضت ضده في سلوكياته الدموية وقد تختلف عنه بالعقائدية.
ولكن.. لا بد لحكم المقهور أن ينتهي، وسينتهي على أيدي من التفوا حوله سابقاً لأسباب عديدة، فالمقهور لا يمتلك من الحلول شيئاً مناسباً للجميع، ولا يعرف سوى الانتقام، ولا يعالج العنف إلا بالمزيد من العنف، وسيبدأ عاجلاً أم آجلاً بأكل لحمه وتوجيه القمع، وبعد أن يزول القهر يبدأ عامة الناس يفكرون بالتغيير، وينفضون من حول المقهور الذي يكون قد بنى نظامه القهري الجديد والذي بات مشبعاً في تناغمه معه، فلا يكون منه إلا حالة أكثر عنفية عن سابقتها ضد النظام، وهذه المرة ضد أنصاره، فتعود الثورة في موجتها الثانية لتقضي على ما يسمى الثورة المضادة، والتي ما هي إلا طور من أطوار الثورة، ويأتي مرة أخرى أهل التغيير، ولكن هذه المرة مدججين بمساندة الشعب الذي سئم الدم، وبالحذر من المقهورين الجدد بعد أن ذاقوا مرارة التجربة. ولن يكونوا من هؤلاء الذين انصاعوا لأطراف خارجية أو للمقهورين، لأن أولئك من اللحظة الأولى التي قبلوا فيها ذلك باتوا من فئة ثوار القهر، ولن يرضى بهم عموم الشعب الذي يكون قد امتلك وعياً معيناً بعد خوض التجربة وملامستها.
سوريا اليوم تعيش في ظل النظام من جانب، والثائر المقهور من جانب آخر، وليس هذا بالأمر الغريب عن الثورات، فالثورة الفرنسية عاشت طورها الأول ومن ثم جاء اليعقوبيون فالبونابرتيون، حتى انتفض الشعب مرة أخرى ليقيم حلمه الأول، وكذلك الثورة الألمانية التي عاشت طورها الأول فأتاها النازيون، ومن ثم انتفض الشعب مرة أخرى ليحقق أيضاً حلمه، ولن يمر العقد القادم دون أن تشهد روسيا نهاية الهمجية الستالينية ومن ثم البوتينية.
وليس بالضرورة أن نعيش تلك المرحلة رغم أنها تشبه الأخطاء النظامية في الفيزياء التي لا يمكن تصحيحها، وعلى الجميع المرور بها حتى يفهمون آليتها، إلا أنه من الممكن أن نختصر المرحلة، فقوة التواصل اليوم لا يمكن أن تقاس بما سبق، وعادة ثقل المرحلة وطول فترتها يقاس بالدرجة الأولى بكم المعلومات المتدفق حولها، فقد قضى على انتفاضة الثمانينات في سوريا الضعف المعلوماتي، رغم أن الفظائع التي ارتكبت تكاد تكون أكثر وحشية من اليوم، ففي حماه وفي أسبوع واحد قتل الأسد الأب ما يقارب 45 ألف ضحية، ولكنه تمكن من قمع الانتفاضة لأن المعلومة بما تحتويه من فظاعة الصورة وسرعة التداول وكشف المستور لم تكن متوفرة كاليوم، التكنولوجيا لن تلغي مراحل الثورة، لكنها يمكنها من أن تقلصها أو تدمجها أحياناً، وهذا ما نراه جلياً في المرحلة الآنية، فهي خلط بين حكم المقهور والأكثر قهراً.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل