

مع وصول الأنباء التي أكدت هروب بشار الأسد، ودخول قيادة إدارة العمليات بقيادة أحمد الشرع إلى قصر الشعب، هيمن فرح غامر على غالبية السوريين الذين قدموا تضحيات تفوق الوصف على مدى 14 عاما.
ولكن في موازاة هذا الفرح، كانت التساؤلات والهواجس بشأن الخطوة التالية. ومن بين هذه التساؤلات: هل توافقت القوى الدولية والإقليمية المؤثرة المعنية بالملف السوري على احترام تضحيات وتطلعات السوريين الذين قاسوا الأمرّين بفعل جرائم سلطة آل الأسد؟ أم أن خطوة إخراج الأسد من المعادلة، والاعتماد على فصيل مصنف ضمن قوائم الإرهاب الغربية والأممية هي مجرد خطوة مرحلية وظيفية تمهيدية لخطوة لاحقة مجهولة الملامح؟
هذا إلى جانب تساؤلات أخرى حول جدية تحوّلات هيئة تحرير الشام وقائدها أحمد الشرع تحديداً؛ وأخرى خاصة بمستقبل العلاقات بين المكونات المجتمعية السورية والعلاقات بينها وبين الإدارة السورية الجديدة، والمعني به هنا على وجه التحديد المكونات المجتمعية التي هي خارج دائرة المكون العربي السني.
غير أن الطابع السلس لعملية التغيير، وعدم حصول مواجهات مسلحة كان من شأنه التسبب في وقوع أعداد كبيرة من الضحايا والجرحى وإحداث دمار هائل، خلق ارتياحاً لدى السوريين. وما عزز بواعث هذا الارتياح أكثر تأكيدات الرئيس الشرع أن العهد الجديد سيحترم سائر المكونات المجتمعية، وأن سوريا المستقبل ستكون للجميع وبالجميع. هذا بالإضافة إلى وعوده بشأن احترام حرية المرأة وحقوقها؛ وغير ذلك من الحقوق التي اعتبرتها الدول الغربية مبشرة، ولكنها بينت في الوقت ذاته أنها ستراقب الأوضاع على الأرض لأن العبرة في التطبيق.
كما استبشر السوريون من جانبهم بمستقبل جديد يضمن لهم ولأبنائهم وأجيالهم المقبلة مقومات العيش الحر الكريم؛ هذا رغم انتقادات بعضهم، وملاحظات بعضهم الآخر بشأن التعيينات الأساسية والإجراءات المتسرّعة بخصوص مختلف المسائل.
وكان الانفتاح العربي الخليجي اللافت على الإدارة الجديدة خطوة مشجعة، تعلق بها السوريون على أمل تجاوز الاختلال في معادلة نفوذ القوى الإقليمية والدولية الداخلة في سوريا.
كما أن الاتصالات الدولية مع الإدارة الجديدة، والزيارات المتبادلة، والانفتاح الغربي على الإدارة الجديدة، إلى جانب رفع أو تعليق العقوبات الأمريكية والأوروبية لتخفيف الضغوط الاقتصادية على سوريا، كل ذلك اعتبر من المؤشرات الإيجابية التي أوحت بأن الإدارة المعنية قد وصلت إلى دفة الحكم في سوريا بفضل التوافقات الإقليمية والدولية؛ وهي توافقات ما زالت في دائرة المسكوت عنه. ولكن السؤال الحيوي هنا هو: هل ستستمر تلك التوافقات لتكون محوراً أساسياً من محاور السياسة الأمريكية الشرق أوسطية؟ أم أنها توافقات وظيفية من جانب الأمريكان، وبالتفاهم مع إسرائيل بطبيعة الحال بعد الزلازل الكبرى التي شهدتها، وتشهدها، المنطقة قبل وبعد المواجهة العسكرية المباشرة بين إسرائيل وإيران، ودخول الولايات المتحدة الأمريكية نفسها على الخط عبر الدعم والإسناد وأخذ الاحتياطات، بل والمساهمة في عملية قصف المواقع النووية الإيرانية؟
فالولايات المتحدة بفعل وجودها المباشر على الأرض السورية منذ أكثر من عقد؛ ومن خلال اتصالاتها مع هيئة تحرير الشام في إدلب، ومع الشرع نفسه شخصيا، لديها فكرة كافية حول طبيعة الهيئة وتوجهاتها. وهي على دراية بماهية العلاقات بينها وبين الفصائل الأخرى، لا سيما تلك التي تحالفت معها استعداداً لعملية «ردع العدوان» والدخول إلى دمشق. وهذا فحواه أن الكثير مما حصل حتى الآن في الساحل، وفي السويداء، والعملية الإرهابية التي استهدفت المصلين في كنيسة مار الياس بدمشق؛ كل هذه الكوارث كانت متوقعة لأسباب عديدة منها موضوعية لها علاقة بوضع القوات الأمنية والعسكرية الحكومية من جهة العدد والإعداد والعتاد؛ ومنها أيديولوجية تتمحور حول الشحن المذهبي، ومحاولة تسويغ ذلك عبر استخدام الظلم الكبير الذي تعرض له العرب السنة في الخطابات المذهبية التي وصل الأمر ببعض أصحابها إلى حد المطالبة بالانتقام، واستخدام أسلوب استعلائي، وكأنهم أصحاب الدار الشرعيين. أما المكونات المجتمعية الأخرى، الدينية والمذهبية والقومية الأقل عدداً فهي تجسد حالة شاذة طارئة وفق منظورهم؛ وهم يتعاملون مع هذه الأخيرة لا كجزء عضوي طبيعي أصيل من النسيج المجتمعي الوطني السوري العام، وإنما كخطر دائم يفسح المجال أمام التدخلات الخارجية.
واليوم، وبعد أحداث السويداء الأليمة والاعتداءات الإسرائيلية على القوات العسكرية الحكومية، وعلى مواقع عسكرية ومقرات سيادية؛ إلى جانب الأخبار المفزعة حول الانتهاكات التي حصلت في السويداء وقبلها في الساحل من قبل مختلف الأطراف وبحق مختلف الأطراف، يُلاحظ تحول في الخطاب الأمريكي والغربي عموماً، وهناك تهديدات بإعادة العقوبات والاستمرار في العمل بقانون قيصر؛ إلى جانب دعوة أمريكية صريحة على لسان وزير الخارجية بضرورة التزام الإدارة السورية بتنفيذ مطالب ليس من السهل تنفيذها.
أما التصريحات التي تستوقف أكثر من غيرها فهي تلك التي تصدر تباعاً عن المبعوث الأمريكي إلى سوريا توم برّاك، خاصة تصريحه الخاص حول عدم وجود خطة بديلة لدى الولايات المتحدة؛ وهو تصريح يُفهم منه عدم وجود قوة سورية أخرى خارج نطاق الحكومة الحالية يمكن أن تكون بديلاً عن الإدارة الحالية. هذا في الوقت الذي تتعالى فيه نبرة الانتقاد من جانب المسؤولين الأمريكان والغربيين حول أسلوب معالجة ملف السويداء، وقبل ذلك ملف الساحل.
أما إسرائيل فلديها موقف واضح بخصوص المستقبل السوري يتمثل في إصرارها على أن تكون سوريا ضعيفة، بل منزوعة السلاح، خاصة في المنطقة الجنوبية. ولعلنا لا نذيع سراً إذا قلنا إن هذا الموقف الإسرائيلي إنما هو بالتنسيق والتكامل مع الموقف الأمريكي، ويعد مثل هذا التنسيق من المسائل الاستراتيجية بالنسبة إلى الطرفين.
وبالتوافق مع هذا التوجه الإسرائيلي، هناك اليوم حديث متزايد حول الشرق الأوسط الجديد، وإعادة ترتيب المنطقة أو هيكلتها من جديد، بما في ذلك إعادة النظر في الحدود التي تفصل بين الدول، أو حتى رسم حدود جديدة ضمن الدول القائمة حالياً. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن فكرة الشرق الأوسط الجديد هذه ليست وليدة اليوم، بل عمرها المعروف المعلن هو أكثر من عقدين؛ ويتذكر المتابعون المهتمون تصريحات كوندوليزا رايس حول الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد بعد غزو العراق. هل نحن الآن في مرحلة تطبيق فكرة الشرق الأوسط الجديد؟ وهل اُستخدمت هيئة تحرير الشام بطريقة ما لتنفيذ هذه المهمة سورياً؛ وسوريا كما نعلم دولة مفتاحية، ستكون لمتغيراتها الداخلية انعكاسات شبه مباشرة، بل مباشرة، على الجوار الإقليمي، لا سيما في لبنان والعراق؟
أم أن دعم هيئة تحرير الشام غربياً وأمريكياً على وجه التحديد كان عن حسن نية، وخضوعاً للأمر الواقع؛ ولكن الذي حصل هو أن تراكمات الأخطاء المحسوبة على الإدارة السورية الجديدة قد أدت إلى حدوث تحولات في مواقف الدول الغربية، وهي تحولات ستؤثر من دون شك في حال استمراريتها على مواقف بعض الدول العربية، وستكون لها انعكاسات إقليمية؟
هل بلغت الأمور في سوريا نقطة اللاعودة؟ أو بكلام آخر هل بلغت الخطة الأمريكية في سوريا نقطة الانتقال إلى المرحلة التالية التي تصر عليها إسرائيل، وتتمحور هذه الخطة، في حال وجودها بالفعل، حول تفتيت سوريا إلى كيانات مذهبية وقومية تحت شعارات مختلفة منها: استحالة امكانية التعايش المشترك بين المكونات المجتمعية السورية، وقطع الطريق على انتهاكات ومجازر تقشعر لها الأبدان والنفوس؟
وهنا يفرض السؤال المشروع الذي ينبغي أن يطرح نفسه وهو: هل هذه الخطة من باب القدر المحتوم؟ أم أن هناك امكانية لقطع الطريق أمامها عبر إجراء مراجعة جريئة للسياسات والمقاربات والممارسات الخاصة بالأوضاع السورية الداخلية التي كانت حتى الآن؟
هل سيقتنع أصحاب القرار في الإدارة الجديدة بعد تجربة سبعة أشهر في الحكم بأن سوريا هي أكبر من أن تُدار من قبل مجموعة بعينها لا تراعي في معظم المواقف الشروط الأساسية لإدارة ناجحة للتنوع السوري؛ وفي مقدمة هذه الشروط المشاركة في حوار وطني حقيقي يستهدف التوافق على عقد اجتماعي يكون أساساً لدستور وطني عام يطمئن سائر السوريين، يكون ركيزة لنهوض حقيقي لدولة سورية وطنية تكون على مسافة إيجابية ومن جميع مواطنيها. دستور يقر بخصوصية المكونات، ويثبت حقوقها على الصعيد الجماعي؛ ويضمن المساواة بين المواطنين السوريين على صعيد الحقوق والواجبات؟
نقول إن الانفتاح على الدنيا بأكملها لن يكون مجدياً من دون الانفتاح على السوريين. الاستقواء بالقوى الإقليمية والدولية التي تتبدل مصالحها وتتعارض مع الوقت لن يكون أبداً البديل عن الاستقواء بالسوريين، وإتاحة المجال أمامهم للإسهام في عملية ترميم نسيجهم المجتمعي الوطني، والنهوض ببلدهم ودولتهم.
ما نراه في هذا السياق هو أن الوضع السوري رغم كل الذي حصل، ورغم كل التحديات، ما زال قابلاً للمعالجة شرط الاعتراف بالأخطاء، وتحديد المسؤوليات وتطبيق مبدأي المساءلة والمحاسبة بشفافية ونزاهة، وإشراك السوريين في إدارة شؤون دولتهم، وفي عمليات إعادة البناء على مستوى الاجتماع والعمران، وكل ذلك يستوجب قبل كل شيء توفير الأمن والأمان، والمقومات الأساسية للعيش الكريم.