* عمر قدور
على رغم الإهانات السوقية التي وجهها بشار الأسد للمعارضة، في خطابه الذي افتتح به مجلس «شعبه»، تبقى الإشارات الخارجية أهم، إذ يُتوقع منه كما كان حال أبيه توجيه الإهانات للداخل دائماً، أما توجيه الشتائم للخارج فأمر يخضع لحسابات أكثر انضباطاً.
بشار خصّ أردوغان بالشتائم الشخصية، وحمل على المملكة العربية السعودية، ونال في المجلس تصفيقاً حاداً يعكس الضخ الإعلامي الذي واظب عليه النظام بقوة منذ انطلاق الثورة، ولم يتخلَّ عنه ضمنياً في أي وقت.
ولا مفاجأة في شتائم بشار ونعوته، لا بسبب الاصطفافات الحالية فحسب، بل لأنه يستأنف إرثاً لم ينقطع من الخطاب الأسدي الدائم. إذاً، صفق الحاضرون في قاعة المجلس لما اعتادت آذانهم على سماعه والطرب له، والذي يتلخص بالتجريح بدول الخليج، وهذه معزوفة الممانعة التي لم تتغير منذ اصطفافات الحرب الباردة. لكن الارتكاز على المعسكر السوفياتي كان شأناً ثانوياً، على العكس من العداء الضمني للعروبة كشأن جوهري، بدلالة عدم تغير المعزوفة مع انهيار عالم القطبين.
إننا إزاء نظام جاهر طوال الوقت بأيديولوجيا بعثية عروبية، بينما عملت ماكينته الإعلامية والتربوية في الوقت ذاته على نقض فكرة العروبة، تحديداً العروبة المشرقية بصفتها تمثيلاً أشدّ بروزاً من نظيرتها المغاربية. الاستثناء المصري ليس بذلك الصفاء، إذ طالما نُظر إلى العمق الفرعوني المصري كمؤثر ينال من عروبته، بخاصة مع الانقضاء السريع للخطاب الناصري، ومن ثم توقيع اتفاقات كامب ديفيد.
لحل التناقض كان إعلام النظام، الظاهر تارة والمبطن أحياناً، لا يتوقف عن إذكاء العنصرية ضمن العروبة ذاتها، بتقسيمها إلى عروبة متقدمة وعروبة متخلفة. تالياً، لم تتوقف محاولة تنشئة السوريين على الولاء لعروبة غير متعينة سوى بهم، وببعضهم أخيراً، والعداء النفسي لعروبة أوسع امتداداً، وأكبر من حيث الثقل الجيوسياسي، مع حصر العامل الأخير بالنفط الذي يُصوّر كورقة يانصيب رابحة عُثر عليها في الطريق.
طوال عهدَي الأسدية، لم تنشأ علاقة مستقرة مع الأردن، الذي يُنظر إليه بازدراء كجزء مُقتطع من سورية الكبرى، ولا علاقة مستقرة مع دول الخليج. العداء والتوتر المستمر كانا السمة الأبرز في العلاقة مع العراق، وهذا ما لم يتغير إلا مع «تنقل» قاسم سليماني لقيادة المعارك وتنظيم النفوذ الإيراني على الجانبين، أي أن العلاقة لم تكن جيدة حتى في ظل النفوذ الإيراني المشترك قبل الثورة، ربما على أرضية المنافسة لكسب حظوة أكبر لدى السيد الكبير.
جدير بالانتباه أن الكيان الأسدي كان دائماً على علاقة سيئة بالجوار العربي المشـــرقي، وسعـــى إلى التعويض بتحالفــــات مع ليبيا أو الجزائر البعيدتين عن مفاهيم العروبة المشرقية، بينما لم تُبدِ بقيــــة دول المغرب اكتراثاً بالتطورات الإقليمــــية المشرقية. الأهم أن الثقافة التي كان يروّجــها داخلياً هي ثقافة عنصرية تجاه ذلك المحيط: فالخليج هو تماماً كما تختزله أشد الصور الغربية نمطية وعنصرية، والعراق نصفه خليجي ونصفه الآخر بعثي يميني منحرف، أيضاً اليمين وفق التصنيفات يحيل إلى الخليج «اليميني». أما لبنان، المُقتطَع من سورية أيضاً، فهو مجموعة من الطوائف التي لا تستطيع العيش معاً من دون الوصاية السورية.
أيضاً، العداء لتركيا له صفة الاستدامة، باستثناء فترة قصيرة من علاقة بشار الجيدة بأردوغان. العداء كان أولاً بذريعة ضم تركيا لواء اسكندرون، وتعين بدعم حزب العمال الكردستاني في حربه على الحكم التركي منذ 1980، مع أن النظام لا يتبع سياسة أفضل من نظيره التركي إزاء أكراد سورية. يُسجل هنا أن حكومات تركية متعاقبة اتبعت سياسة ضبط النفس إزاء الأسد، على رغم امتلاكها جيشاً هو الثاني من حيث الضخامة في حلف «الناتو»، وكان يكفي التلويح به لتسليم عبد الله أوجلان كما حدث عام 1998.
ولم تنجُ صورة التركي من التنميط. فهو، مرفـــق الرواية الأسدية المدرسية، ذلك العثماني المتخلف الذي قدم للتو من آسيا الوسطى، واستفاد من أبناء حضارة المنطــــقة فـــــي تشييد إمبراطوريته ناسباً إنــــجازاتهم لنفسه. رواية مختزلة، تتقـــــــاطع بعنصريتها مع النظرة إلى الــــعرب، وتتغــافل بالطبع عن التاريخ المتــــشابه للإمبراطوريات وفتوحاتها التي استـــثمــرت في حضارات سابقة. سيستدرك النظام بعضاً من النقص السابق، إذ ستعمد آلته الإعلامية منذ بدء الثورة إلى القول إن الحضارة السورية شذّبت أولئك العرب الذين أتوا إليها بالإسلام من موطنه الأول. المقولة نفسها يتبناها غلاة الشوفينية الإيرانية إذ يعتبرون أن الحضارة الفارسية هي التي جعلت الإسلام متحضراً.
وفق أدبيات الممانعة، الكيان الإسرائيلي موجود على الضد من نسيج المنطقة، مستلهماً في انعزاله عنها العنصرية المستمدة من القول إن اليهود شعب الله المختار. هذه الأدبيات تنفي صفة الدولة عن إسرائيل، لأن وصف الكيان يوحي بتغربه وحتمية زواله. وإذا كانت رحلة إسرائيل القصيرة هي حقاً من الكيان إلى الدولة، يمكن وصف الرحلة الأسدية بالقول إنها من الدولة السورية الناشئة إلى الكيان، بمعنى العمل على تأسيس «غيتو» لا يعيش علاقات جوار طبيعية مع محيطه، وبمعنى أنه يعتاش على العنصرية إزاء المحيط، وعلى البارانويا المعممة التي لا سند لها سوى الخوف من الذوبان في المحيط.
وفق هذه الترسيمة، لا بد أن تكون علاقة النظام بجواره محكومة بالضرورة القصوى، بخلاف علاقته بإيران، فالتحالف مع المشروع الإيراني استكمال لمسيرة العداء تجاه العروبة المشرقية. لنلاحظ أن أكبر إهانة وجّهها بشار إلى المعارضين في خطابه، تلخّصت في اتهامهم بالتبعية للسعودية وتركيا، ومن المؤكد ألا تغيب عن باله تبعيته لإيران. الأمر أنه، أمام جمهور متفهم، يفاضل بين تبعيتين، ويمنح ضمناً القيمة الأعلى لإيران التي لم تصورها أدبياته يوماً كعدو أو كعنصر حضاري أدنى.
تلا بشار خطابه قارئاً جيداً لأبيه في الوقت نفسه، أما تواري الإنشاء الممانع المعتاد تجاه إسرائيل، فربما يجد مبرراً له في ذلك التلاقي الموقت الذي قد يحدث بين خارج من الغيتو وذاهب إليه.
عذراً التعليقات مغلقة