استطاعت الحملة الروسية – الإيرانية على الغوطة وبالتعاون مع قوات النظام تحقيق أهدافها في إنهاء وجود قوى الثورة العسكرية وتجريف سكانها في القسم الأكبر من الغوطة، ولكن بقيت دوما التي يسيطر عليها جيش الإسلام تكافح هذه الحملة حتى تاريخ كتابة هذه السطور، وبغض النظر عن مآل هذا الصمود وما إذا كان سيغير من نتائج هذا الهجوم، أو أنه سيكرر مشاهد الغوطة المحزنة الأخرى فإنه من الواضح أن مرحلة جديدة ترتسم في الصراع مع نظام الأسد..
أهم معالم هذه المرحلة هو انتهاء الدور السياسي للفصائل، وخروجها من السياسة المستندة إلى القوة العسكرية والوقائع الميدانية، فمن الآن فصاعداً لن يكون هنالك فصائل شبه مستقلة يمارس التأثير عليها الداعمون عن بُعد، ستكون جميع الفصائل تحت سلطة دولة من ثلاث دول: تركيا أو الولايات المتحدة (وبقية الحلفاء) أو الأردن، أي أنها ستكون جزءاً من سياسات بلدان أخرى، ستكون هذه البلدان هي من يقرر سياسياً بالنيابة عنها.
هذا المصير هو نفسه الذي سبقتهم المعارضة السياسية إليه بعد تشكيل الائتلاف 2013، ثم الهيئة العليا للمفاوضات ثم جنيف 4 فالهيئة السورية للتفاوض، حيث ظهر تأثير جميع البلدان “الصديقة” والعدوة، بل ظهر تأثير النظام العدو ذاته وغاب السوريون، ما جعل المعارضة تمثل جميع الفاعلين الإقليميين والدوليين إلا السوريين. ولا تعدو هذه المعارضة بشكلها الحالي أن تكون أداة لإسباغ الشرعية على أي اتفاق سياسي بين جميع الدول الفاعلة على الأرض، وقتها علينا أن نتوقع أن يطرق مسامعنا بكثافة الحديث عن واقعية الممكن والمتاح، وعن “شيء أفضل من لا شيء” ومثل ذلك الذي سمعناه في رياض2 وما بعده.
بعد سقوط آخر قلاع المعارضة في غوطة دمشق صارت خيارات الفصائل محدودة أو شبه معدومة في المرحلة القادمة، وبدلاً من السؤال ما الذي علينا فعله لكي نعيد ترتيب صفوفها؟ علينا أن نفكر بمخارج أخرى لاستمرار الصراع ضد نظام الأسد، إذ هذا السؤال لم يعد مجدياً بعد أن فشلت جميع محاولات توحيد هذه الصفوف خلال السنوات الست الفائتة، وصارت حقيقة أن قادة الفصائل فضّلوا أن يشبهوا أمراء الحرب بدلاً من يكونوا جيش تحرير وطني، وإذا فشلت تلك المحاولات في حالات الشدة والرخاء فما من شيء يجعلنا نؤمن بأن فرصة جديدة قد تلوح في الأفق لتوحيد صفوفها.
السؤال الأهم الآن ونحن مقبلون على هذه المرحلة، التي قد لا تكون سيئة كلياً كما قد يعتقد البعض، هو كيف نمنع الشرعية عن أي تقدم يحرزه حلفاء الأسد على الأرض؟ وكيف نمنع أن يتم إسباغ الشرعية على أي اتفاق سياسي دولي-إقليمي دون أن يكون للسوريين فيه قرار فعلي؟
الاعتماد على إعادة تشكيل المعارضة لمواجهة هذا التحدي يصطدم بواقع مرير، مفاده أنها معارضة تم العبث ببنيتها وتركيبها لتلبي مصالح جميع الفاعلين ويصعب إعادة ترتيب صفوفها فضلا عن إعادة بنائها، فالسوريون صاروا للأسف حتى في هذا الأمر هم الطرف الأضعف، وسبق أن فشلت كل جهود التغيير في هذه المعارضة، واستحكمتْ مع الوقت وتدخلِ الدول النزعةُ الفصائلية والشللية في الذين تصدروا مشهدها، ومارسوا لعبة إفناء الخصوم والتخلص منهم كشرط للاستمرار، ثم آل الأمر فيها إلى أن أصبح البحث عن إرضاء الدول هو المدخل لانتزاع مصالح السوريين!
يجب أن تكون لدينا الجرأة والشجاعة لاتخاذ قرار بحلول جذرية للخروج من هذا النفق المعتم، ومواجهة التحدي الراهن الذي يطرحه السؤالان أعلاه، حيث لا إصلاح الفصائل ممكن، ولا إصلاح الهياكل السياسية القائمة ممكن، ولنتذكر أن الشرعية مفهوم سياسي في نهاية المطاف، وأن السياسة هي المحصلة النهائية التي يسعى الجميع لتثبيت مكاسبهم من خلالها، والحال هذه فإنه من الأفضل الرهان على نزع شرعية المعارضة التي تتصدر المشهد ما دمنا غير قادرين على بناء هياكل عامة بديلة في ظل الوضع الحالي، نزع الشرعية عن الهيئة السورية للتفاوض هو في المدى المنظور يحقق أهدافاً كثيرة للسوريين، أهمها منع تحقيق مزيد من المكاسب السياسية للنظام وحلفائه ومنع الدول من أن تحقق ذلك على حسابنا، باختصار صار الطريق لمنع الشرعية عن مكاسب الآخرين يتوقف على منع الشرعية عن هيئة التفاوض الحالية. صحيح أنه لا يزال يعتقد كثيرون أن الهيئة المذكورة “مكسب” وإنه يجب الحفاظ عليه، لكن وقائع الأمور ومآلاتها تجعل من هذه “الهيئة” أداة لشرعية حلول الآخرين وليست حلولنا.
هل يعني ذلك أن تبقى الثورة السورية بدون هيئة تتكئ عليها؟ ببساطة ووضوح نعم، قد يكون هذا نافراً بعض الشيء في ظل الفهم السائد لدور المعارضة في الصراع السياسي مع نظام الأسد، ولكن بنظرة أبعد مما يجري الآن إلى ما هو متوقع بشدة أن يجري بعد حين في ظل خروج الفصائل العسكرية من اللعبة السياسية ومصادرة قرار المؤسسة السياسية التي فرضت لتمثيل المعارضة دولياً بعد اختراقها، فإن مقاومة إرادة الدول وفرض الحد الأدنى من إرادة السوريين لن يكون بمؤسسة سياسية مثل هيئة التفاوض الحالية، ما من شك أنها أعجز من أن تقوم بهذه المهمة بكثير، لقد حفظنا السياسة المتبعة: تحفّظ ومقاومة شكلية جذرية يتلوه انهيار مفاجئ وحديث عن الواقعية و”فنّ الممكن”، وما بينهما تفاوض وعقد صفقات (نموذج التعاطي مع سوتشي ومع الحملة على الغوطة مجرد أمثلة عن ذلك). إنه لأمر محزن حقاً أن يسلَّم مصير السوريين إلى مؤسسة هذا حالها. فلنترك المجتمع الدولي يواجه حالة الفراغ السياسي في المعارضة ويبحث عن حلول.
هل يتطلب ذلك أن يتوقف السوريون عن تنظيم صفوفهم السياسية والمدنية؟ على العكس من ذلك يجب أن يتزامن نزع شرعية الهيئة التفاوضة المذكورة مع عمل تنظيمي واسع يفترض أن تتحرك به النخب السياسية والمدنية، خبرة سبع سنوات يجب أن تكون رافعة للمرحلة القادمة.
عذراً التعليقات مغلقة