لا تقرأ هذا المقال عن غزة والفلسطينيين!

عمر قدور26 سبتمبر 2025آخر تحديث :
لا تقرأ هذا المقال عن غزة والفلسطينيين!

هي قضية مملة كما يرى معظم القرّاء، وهي قضية خاسرة أيضاً، فوق أنها قضية هرمة تنتمي إلى زمن غابر؛ هذا ما يمكن أن توصف به القضية الفلسطينية. أما عن غزة، فمن السهل القول، والاقتناع، إن المجزرة مستمرة، ولا أحد يستطيع إيقافها. إذاً، لا جدوى بالمطلق، لا جدوى حتى من أنشطة (أهم) مما يُكتب هنا وهناك. ومن الأفضل إشاحة البصر عن الأمر برمته!

لا يغيّر مما سبق أخبارٌ من قبيل اعتراف فرنسا وبريطانيا والعديد من الحكومات الأخرى بالدولة الفلسطينية، والتحركات الدولية الأخيرة من أجل الدفع بحلّ الدولتين. فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، في هذه الألفية على الأقل، كانت جميعاً ضد مبدأ الدولتين. ومن نافل القول إن القوى العظمى غير مستعدة للضغط على تل أبيب لاعتماد خريطة سلام حقيقية، وحكام تل أبيب لن يكونوا مستعدين للسلام بلا ضغط خارجي، خصوصاً مع تقهقر معسكر السلام الداخلي الذي لم يعد له تمثيل سياسي ذو وزن يُذكر.

سؤال الجدوى من اعتراف المزيد من البلدان بالدولة الفلسطينية يهمل بمعظمه الجهودَ التي أوصلت حكومات أوروبية إلى الاعتراف، يهمل تحديداً الحراك الذي قام ويقوم به نشطاء في الغرب، بهدف الضغط على الحكومات لتقوم بواجبها في الضغط لإيقاف المجازر في غزة، وبواجبها إزاء المأساة الفلسطينية عموماً. اليوم تقترب الذكرى الثانية لعملية “طوفان الأقصى”، أي أن الحراك الذي شهدته ساحات وشوارع الغرب ضد الرد الإسرائيلي (غير المتناسب إطلاقاً مع العملية) يقترب أيضاً من إتمام سنته الثانية.

هناك ملايين النشطاء حول العالم استمروا خلال المدة المذكورة بالتظاهر، وبإقامة مختلف الأنشطة التضامنية وصولاً إلى الأسطول الذي أبحر إلى غزة. فعلوا ذلك بإخلاص شديد، وبلا كلل أو ملل. ونجزم بأنهم ليسوا أقل ذكاء من أولئك الذين يشيحون بوجوههم عن غزة وعن الفلسطينيين، بدعوى عدم الانخراط في قضية مزمنة وخاسرة، ولا رجاء أو جدوى من الاهتمام بها، أو العمل من أجلها.

هؤلاء لم يسألوا عن القطاف قبل الزرع، لم يسألوا عن الجدوى المضمونة من تحركهم قبل القيام به. وهُم بهذا لم يفعلوا شيئاً خاصاً من أجل غزة أو من أجل الفلسطينيين، إنهم يستأنفون نمط تفكير اعتادوا عليه في بلدانهم، نمط يعتمد في جانب مهم منه على التراكم. لقد نجحت تحركات داخلية كثيرة في هذه البلدان، وفشلت إضرابات ومظاهرات في تحقيق أهدافها المباشرة، إلا أن الفشل لم يمنع تكرار الاحتجاجات، ولم يتسبب باليأس من مبدأ التعبير عن المطالب بمختلف الوسائل المتعارَف عليها في البلدان الديموقراطية.

في الأصل، لو كان النشاط السياسي مرتبطاً بجدوى مباشرة لتغير مجرى التاريخ كله، لأن الربط المباشر بين الاثنين يلجم المغامرة من جهة، وتراكم الإنجاز والخبرات من جهة ثانية. أسئلة الجدوى العربية ليست وقفاً على غزة أو فلسطين، فهي ابنة ثقافة لا تعترف بالتراكم، ولا تصنع تالياً مشاريع سياسية لها صفة الاستمرار والتطور، ومن باب أولى أن المغامرة نادرة جداً، وقد يكون الندم من عواقبها، وكذلك النكوص عن أي نشاط بعدها. بخلاف الكلام الكثير عن المقاومة، لا تُمارس المقاومة في بلداننا كفعل سياسي طويل الأمد. وهكذا، لا تكون مشروعاً داخلياً قبل أي اعتبار خارجي، وهي بمعظمها لا تندرج ضمن منظومة قيمية ذات أفق إنساني أرحب من الأيديولوجي الضيق.

كثير من الأسئلة عن الجدوى هي لتبرير عدم الفعل، والظن بأن كل شيء قد قيل بلا جدوى ظنٌّ لا يسنده وجود الكثير من المنجز المعرفي حول القضية الفلسطينية، ولا المتابعة الحقيقية على العديد من المستويات. فالمجازر المستمرة منذ نحو سنتين لم تستفزّ تحركات في بلدان عربية على سبيل التضامن الإنساني، وهذا مؤشّر على التصحّر السياسي في البلدان المعنية، لا على تصحّر القضية الفلسطينية بوصفها قضية لا تحتمل المزيد من القول، فضلاً عن كونها ميؤوساً منها.

الصمت، بدعوى عدم وجود ما يُقال، مفجع بدلالاته. ففي الواقع ثمة الكثير مما تُرفع الأصوات من أجله، والكثير مما يؤثر على حاضر المنطقة ومستقبلها، لأن ما يحدث في غزة (والضفة أيضاً) لن تتوقف آثاره عندهما، ولن تقتصر على الفلسطينيين وحدهم. ترابط القضايا وتشابكها في المنطقة لا يحلّه انتهاء زمن الأجوبة القومية والإسلامية، بل يُفترض أن يدفع الاستعصاء الحالي إلى تقصّي الأسئلة التي لم تُسأل من قبل، والبحث عن الإجابات المحتملة على الأسئلة التي لم تجد لها أجوبة من قبل.

وفيما يخص غزة والقضية الفلسطينية، حدثت تطورات أساسية عديدة منذ اتفاقيات أوسلو ومآلها المعروف. في المقابل لم يكن هناك سياق فكري عام مواكب لما حدث، والمشكلة لم تكن في كتابات متفرقة هنا أو هناك، بل في عدم طرح أسئلة الواقع للتفكير العام. وكما يحدث دائماً في مثل هذه الحالات، فعدم طرح الأسئلة فوّت الفرص على معرفة أعمق وأوسع، انطلاقاً من أن طرح الأسئلة لا يستهدف الحصول على الإجابات بالمعنى الضيق فحسب.

هذه السطور لا تهدف إلى تقديم قول جديد في القضية الفلسطينية، بل تهدف في المقام الأول إلى دحض فكرة عدم وجود ما يُقال؛ انطلاقاً من أثر التحركات في شوارع الغرب على قرارات الحكومات. أي أن هؤلاء النشطاء جسّدوا الفعل والتأثير معاً، لتبقى الجدوى النهائية في انتظار المزيد. أما على صعيد القول المأمول فيتطلب كما أسلفنا نقاشاً عاماً، وهو لن يكون منفصلاً عن النقاشات الداخلية، على الأقل في البلدان المجاورة لفلسطين. هذا بالطبع لا يعني مصادرة القضية الفلسطينية من أهلها، بقدر ما يعني شراكة مفاهيمية تليق بتشابك قضايا البلدان المعنية.

ليس من باب التفاؤل وحده القول إن العالم استيقظ ويستيقظ على أهمية إيجاد حل للقضية الفلسطينية، رغم سوء هذه الفترة على مستوى العالم ككل، ورغم الآثار العامة للشعبويات. لعل هذا يكون دافعاً لأولئك النائمين؛ المقتنعين بأنهم اختبروا كل قول وفعل، من دون الإقدام على أيّ منهما.

المصدر المدن

اترك رد

عاجل