في نهاية الشهر الماضي أثار حافظ بشار الأسد السخريةَ مجدَّداً على بعض صفحات المعارضين، بالإعلان عن نيله شهادة الماجستير “بدرجة شرف” من جامعة موسكو الحكومية لومونوسوف، أولاً على دفعته حسب ما نُشر. ومن الواضح جداً أن الثقة منعدمة بالنظام التعليمي السوري وتقييماته للطلاب، وهي منعدمة منذ زمن بعيد بالجامعات الروسية، ولأسباب تتعلق بمهنيتها وسويتها العلمية، لا بالعداء لموسكو بسبب دعمها بشار الأسد.
في الواقع ليس هناك ما يمنع أن يكون حافظ بشار الأسد متميزاً في الرياضيات، من دون المبالغات التي تُسبَغ عليه في صفحات موالية. لكن المفهوم على نطاق واسع أن إبراز تفوّقه، إذا كان حقيقياً، غير مدفوع بالتشجيع على التميز، وإنما هو من ضمن حملة إعلامية مسيَّسة، غايتها الترويج له كوريث لسلطة أبيه. وللسوريين تجربة سابقة مريرة النتائج، فالجد حافظ روّج لابنه باسل كخليفة له، ثم روّج لبشار بعد مقتل الأول. يُذكر أن الترويج لباسل كوريث حدث بزخم شديد منذ إقصاء عمه رفعت عن موقعه، أي منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، وكان باسل وقتها في سنّ قريب من سنّ حافظ بشار الأسد اليوم، وهذه بالتأكيد بُشرى غير سارة للذين يرون حافظ الثاني صغيراً على وراثة أبيه.
في منتصف الثمانينات، كان الجد حافظ قد مرض، الأمر الذي عجّل في طرح استحقاق خلافته، بينما خلافة بشار موضع تساؤل وبحث منذ اندلعت الثورة ضده، ولا يبدو اسم أخيه ماهر مطروحاً، بل لطالما اعتُبر البديل الأشدّ عنفاً أو وحشيةً وغير المقبول داخلياً وخارجياً. لا عقبات دستورية أمام حافظ الثاني، فمن أجل أبيه عُدِّل الدستور خلال جلسة لمجلس الشعب استغرقت عشرين دقيقة، ولو مات جده قبل سنوات من ذلك التاريخ لتمّ تعديل الدستور أيضاً بما يناسب عُمر الوريث. لذا لا يوجد هناك ما يعرقل مسيرته لاستلام السلطة بعد سنوات، بل قد تُهيَّأ كافة الظروف لتظهير هذه الخاتمة بوصفها أفضل المتاح.
يدعم الفرضية الأخيرة أن الغرب يتخذ موقفاً متناقضاً من بشار الأسد، فهو يريد بقاءه في السلطة، ولا يريد التعامل مع المسؤول عن أكبر جرائم هذا القرن. يضع الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، شروطاً للتطبيع مع الأسد لا يستطيع الأخير قبولها، إذا كانت مقبولة من الوصيين الروسي والإيراني. وبذلك تكون الشروط الأمريكية وصفة لتجميد الوضع على ما هو عليه، تحت عنوان استمرار الضغط حتى يقتنع الأسد أو حلفاؤه بإبرام تسوية يتقاسم بموجبها السلطة مع بعض المعارضين.
شهدنا مؤخراً الضجة الواسعة التي أثارها قرار حكومات عربية التطبيعَ مع بشار، ثم انحسرت “كما كان منتظَراً” على حصيلة متواضعة جداً، وغير مؤثّرة حتى معنوياً على اقتصاد الأسد المستمر في التدهور. وفي غضون ذلك شهدنا زيادة في الإصرار الأمريكي على معاقبة الأسد، من خلال قانونين جديدين يتعلق واحد منهما بتجارة الكبتاغون، بينما يمنع الثاني الحكومةَ الأمريكية من التطبيع مع الأسد، ويلزمها بمعاقبة المطبِّعين معه، ولعل الأهم أنه يمدد العمل بعقوبات قيصر لثماني سنوات مقبلة، مع التفصيل والتشديد في تلك العقوبات.
من المرجّح أن إدارة بايدن موافقة على التطبيع العربي إلى حدّ ما، وبشروط يمكن التأكد من تحققها. الموافقة على التطبيع وفرملته غير جديدين على ما يُفهم بوصفه ازدواجية في السياسة الأمريكية، فبعد وقت قصير من اندلاع الثورة حسمت واشنطن موقفها بأنها ضد الحسم العسكري في سوريا، ومع غضّها النظر عن الميليشيات الإيرانية التي أتت لإنقاذ بشار “قبل التدخل العسكري الروسي” لا يصعب تأويل الموقف على أنه دعم لبقائه في السلطة، من دون أن يعني هذا في المقابل العودةَ إلى ما قبل آذار 2011.
أيضاً، بالتزامن مع الموقف الأمريكي المتشدد في العقوبات، برزت تصريحات أوروبية تشدّد على مبدأ المحاسبة على الجرائم المرتكبة في سوريا. وإذا كان يصعب قياس جدية المواقف الغربية، لجهة المحاسبة ووضع آلية لها، فإن جديتها في عدم تعويم بشار، أو السماح بتعويمه، يمكن استخلاصها من عدم وجود حوافز لدى الغرب لمصافحة مجرم، حتى مع الموافقة على بقائه أو تجاهل ما يعنيه بقاؤه من استمرار في ارتكاب الجرائم.
من الواضح أن الاستعصاء السوري، الذي لا يُرضي طموحات بشار وحلفائه وأصدقائه القدامى والجدد، هو استعصاء بإرادة أمريكية، ومرشَّح للاستمرار طويلاً، أو طالما بقيت الأوضاع الراهنة على حالها. ضمن المعطيات الحالية، لا تُرى في الأفق ملامح تسوية مقبلة، خاصة مع ارتباط الملف السوري بتطورات الأحداث في أوكرانيا والمواجهة بين موسكو والغرب، المواجهة التي قد تستمر لسنوات أيضاً.
بعد سنوات، إذا كانت قوى الخارج جاهزة للتسوية، قد يُروّج لتوريث حافظ الثاني على أنه المخرج الوحيد من الاستعصاء. ومهما يبدو هذا مستغرباً الآن فهو أقرب إلى الواقعية من تسوية يكون بشار شريكاً فيها، أو من تسوية “غير مطروحة” تقصي عائلة الأسد عن السلطة. نعم، قد يحظى مشروع بشار لتوريث ابنه لا بموافقة غربية فحسب، بل أيضاً برغبة غربية في تسريع عملية التوريث متى اتفق اللاعبون على إغلاق الساحة السورية.
المبررات جاهزة لمثل هذا السيناريو، فالوريث غير متهم شخصياً بارتكاب جرائم على غرار أبيه، ووجوده على قائمة العقوبات الأمريكية تدبير احتياطي كي لا يكون منفذاً لتهّرب الأب من العقوبات. هو سيناريو يضمن تنازل بشار بلا حمام دم، ويضمن للموالين استمرار العائلة كضمان لأمنهم وبقائهم خارج المحاسبة. بل إنه يضمن انخراط نسبة أكبر من المعارضين في التسوية، بما أنها ستعفيهم من الإحراج الشديد الذي تتسبب به المصالحة مع الأب، فضلاً عن جائزة الترضية الطائفية لمن يبحث عنها.
في ظل الحصار الدولي على بشار وأسرته، تبدو دراسة ابنه في روسيا خياراً عادياً، لكن معرفة طبيعة نظام بوتين تشير إلى أن الابن مشمول برعاية موسكو، وعلى ذلك أتت التغطية الإعلامية الروسية، ومنها تغطية موقع السفارة الروسية في القاهرة الذي نشر على تويتر خبر نجاحه وحضور أمه حفل تخرّجه مع تسجيلٍ وصورٍ للحدث. ورغم سعي موسكو لتكريس بقاء بشار والتطبيع الدولي التام معه، إلا أن هذا يبقى في إطار المناكفة مع واشنطن أكثر من كونه خياراً للتفاهم، ما يجعل الابن هو الورقة الروسية المؤجّلة.
نعود إلى التأكيد على أن السيناريو غير مطروح للتنفيذ الآن، أما بعد سنوات فربما يكون الوحيد الذي في جعبة الخارج. وهو، مهما قلنا عن إمساك الخارج بالخيوط السورية، يكون بمثابة قدر فقط إذا لم يتحسّب له السوريون الذين جرّبوا الأب الطبيب وقد وصفهم بالجراثيم، وهم بغنى عن تجربة الابن الذي “إذا صدق أو لم يصدق حبّه للرياضيات” يُستبعد أن يراهم أكثر من أرقام.
Sorry Comments are closed