دُفن يوم الأحد، في مدينته الصغيرة “المحمدية”، التونسي أحمد الحفناوي الذي اشتُهر بعبارة: هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية. العبارة كانت قد التقطتها كاميرا “الجزيرة” أثناء المظاهرات المطالبة بإسقاط نظام الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، واعتُبرت حينها تعبيراً بسيطاً وبليغاً عن واقع شعوب المنطقة التي بقيت لعقود تتوق إلى الحرية، ويردعها بطش الحكّام عن النزول إلى الشوارع والجهر بما تريد.
في الذكرى السابعة لتخلي بن علي عن السلطة، استعادت الإعلامية خديجة بن قنة على صفحتها عبارة الحفناوي، لتنقل عنه تأكيده وإصراره عليها، وتفاؤله بغد أفضل لتونس. بعد سنة، أي في مطلع عام2019، ستنقل عنه جريدة الاتحاد الإماراتية ندمه على قوله تلك العبارة، ومقارنته أحواله وأحوال تونس قبل الثورة وبعدها، ليرجّح زمن بن علي مستدلاً بتدهور وضعه الشخصي فيما مضى كصاحب مقهى يقول أنه تعرّض للحرق واضطر لبيعه بعد الثورة.
تسجيل الجنازة، من مقبرة سيدي صالح في المحمدية، لا يتناسب مع شهرة العبارة، ففيه تظهر جنازة عادية جداً بعدد متوسط من المشيّعين؛ هي جنازة رجل عادي لا أكثر ولا أقل. في الأصل، نطق الحفناوي بالعبارة المناسبة في توقيتها، وكان من لوازم شيوعها واعتبارها تاريخيةً أن يكون هو عادياً جداً، عادياً إلى حدّ أن معظم من أُعجبوا أو تغنّوا بها لا يعرف من هو وما اسمه، ولا يريد معرفة الاثنين.
أن يكون الحفناوي عادياً؛ هذا من لوازم أن يصبح تاريخياً، فيكون التاريخ قد أنطقه أو نطق على لسانه، ثم من الأفضل أن يتوارى بعد انتهاء دوره. وبصفته ممثّلاً لأناس عاديين، من الأفضل ألا تكون له سيرة خاصة فيُشتبه أنه نطق عن هوى شخصي، أو عن ذلك التفرّد الذي تباهي به النخبة عادة. على القياس ذاته، لا أهمية لأول من هتف “الشعب يريد إسقاط النظام”، والأفضل أن يكون التاريخ قد استعار صوتاً عادياً جداً جديراً بالنطق نيابة عن أمثاله من الناس العاديين.
ونعلم أن استحضار الحفناوي، بعد “لحظته التاريخية”، إنما هو استحضار للعادي أيضاً؛ تارة في تأكيده وإصراره على الثورة، ولاحقاً بندمه وتوبته عنها. إنه يُستحضر أولاً كناطق باسم العاديين الذين لم تقلل الخسارات من عزمهم على الاستمرار بالثورة، ثم يُستحضر لينطق بالعكس تماماً، وليكون بمثابة درس عن أولئك العاديين الذين أخطأوا، أو غُرِّر بهم، كي لا يخطئ العاديون لاحقاً، وكي لا تراودهم أوهام عن إسقاط النظام. في الحالتين، على اختلافهما، ظهر الرجل باهتاً بعدما لم يعد متحدثاً باسم التاريخ ولحظته الاستثنائية.
أُريدَ للرجل “بندمه” أن يعبّر عن انقضاء زمن وأحلام، ولعل في موته الآن رمزيةٌ غير مقصودة إذ يرحل مع وضوح المآلات المأساوية في بلدان “الربيع العربي”، وفي الطليعة منها بلده تونس الذي بقي لسنوات بمثابة الاستثناء من تلك المآلات. اليوم تكاد تطغى مقارنته هو لحاله قبل الثورة، كمالك مقهى، وحاله بعدها إذ اضطر لبيعه، فهو أيضاً حال عشرات الملايين في بلدان الربيع العربي الذين انتظروا لحظة حريتهم التاريخية، لتنكشف الأخيرة عن تدهور في أحوالهم المعيشية، وتوزعهم بين العيش في ظل اضطرابات وحروب والعيش تحت حكم مخابرات أقسى وأحطّ مما كان من قبل.
في المحصّلة قد نتفق على أن الحفناوي أخطأ، وعلى أنها لم تكن حقاً تلك اللحظة التاريخية المنتظَرة المشتهاة. لكن من المستحسن أولاً الانتباه إلى أولئك المتلهفين منذ سنوات للوصول إلى هذا الاستنتاج، والذين لم يقتصر دورهم على انتظار “لحظتهم التاريخية” لكي يتشفّوا بالمتضررين، بل ساهموا فعلياً في الوصول إلى المأساة، ليفرحوا بها ويعلنوا عدم جدارة الذين قاموا بالثورة.
لسنا نعني بالطبع الأنظمة التي دافعت وتدافع عن بقائها، المعنيّون هنا هم الذين وقفوا إلى جانب الأنظمة خوفاً من الحرية والتغيير، لتكون نهايتهم مع أنظمتهم أسوأ من مخاوفهم الأولى التي جعلتهم يعاندون التغيير. الأسوأ أن لهؤلاء نخبتهم التي دأبت على معاداة الثورة، بذريعة عدم مطابقتها لمعايير الثورات، مع إحجامهم عن القيام بالثورة المطابقة لدفتر شروطهم أو دعوة جمهورهم للقيام بها.
هؤلاء ليسوا مرشّحين، ولن يكونوا، لتقديم نقد حقيقي وإيجابي لما حدث، فمثل هذا النقد يقتضي حدّاً أدنى من الموضوعية، مما لا يتوفر مع أناس يسوقهم الكيد والشماتة، بل يستخدمون المآل البائس لجمهورهم نفسه ليرموا بمسؤوليته على الذين ثاروا. على ذلك، يصبح موقف الذين وقفوا مع الأنظمة صائباً، والعبرة هي للأجيال الجديدة كي تحذو حذوهم، وربما كي تبذل جهدها لمنع أية ثورة، وكي تحارب من تسوّل لهم أنفسهم فكرة القيام بها.
بأمثال هؤلاء تنتعش تلك الفرضيات عن مجتمعات غير جاهزة للثورة، وهكذا “في أحسن الأحوال” تكون اللحظة التاريخية قد أتت قبل أوانها. ونعني هنا الفرضيات الصادرة عن أشخاص لم يعادوا الثورة، بل يتوقون إلى تكرار “اللحظة التاريخية” في ظروف مواتية أكثر مما لاقاه الربيع العربي. المشكلة هي في اليأس الذي يتسرب من شقوق هذه التحليلات، إذ لا يندر بسببه أن توحي بأن ما أفشل ثورة الأمس راسخ بالمرصاد لأية ثورة مقبلة.
من الممكن دائماً، وبسهولة، تمييز اليأس “النبيل” عن ذلك التييئيس الكيدي المتشفّي. ربما ينبغي أن نتخفف قليلاً من الفصل الدارج بين الأخلاق والسياسة، فعندما نتحدث عمّا هو كيدي وشامت فإن لذلك أثر في السياسة بصرف النظر عن تدنّيه الأخلاقي. الأمر يتعلق هنا في أنه من المستحيل صدور ما هو وطني ديموقراطي عمّن يفكّرون بهذه الطريقة، وعمّن هم عملياً في موقع يمنع الآن ولاحقاً إطلاق عملية مراجعة واسعة ومشتركة يقوم بها المتضررون من تفويت اللحظة التاريخية هنا وهناك.
لدينا بين أنصار الثورات محاولات لنقد ما جرى، محاولات قد لا تكون على قدر المرتجى، لكن همّ أصحابها منصرف إلى مساءلة تجربتهم. أيضاً بقي همّ واهتمام أصحاب الشماتة منصرفاً إلى مساءلة هؤلاء، لتبقى الجهة التي يمثّلونها “جهراً أو ضمناً” خارج النقد رغم أن خسائرها لا تقل عن الجهة الأخرى، ولتسدّ هذه الفجوة النكتةُ الممجوجة عن أناس غير جديرين بالثورة أمسكوا بها وتسببوا بدمار أوطانهم. لسان حال هؤلاء أنه ينبغي على الأجيال المقبلة أن تهرم وتموت من دون أن تأتي اللحظة التاريخية، أو من دون الذهاب إليها. رحيل الحفناوي فرصة كي نذكّر بأننا شهدنا حقاً اللحظة التاريخية، وأنّ الذين ينكرون كونها كذلك يجهزون مزيداً من الدماء لتُسفك في اللحظة التاريخية المقبلة، والتي لا بد أن تأتي.
عذراً التعليقات مغلقة