من الطرائف التي أثارها مؤخراً اقتتال الفصائل في الشمال السوري ذلك الكلام عن خطر الجولاني على ثوار تلك المناطق “المحرَّرة”، أو الدفاع عن الفصائل التي استهدفها انطلاقاً من كونها تمثّل الثورة. وإذ يمكن فهم هذا الدفاع وفق حسابات سياسية، لا تتعدى من وجهة النظر هذه المفاضلة بين الأسوأ والأقل سوءاً، فإن حشر الدفاع في خانة الدفاع عن الثورة يفسده ويجعله كاريكاتورياً، مثلما يفسد بأثر رجعي ما يمكن اعتباره فهماً سورياً مشتركاً للثورة، وإن يكن فضفاضاً جداً.
يجوز اعتبار المناطق المعنية مناطق محرَّرة فقط، وفقط بالتأكيد، بوصفها مناطق محرَّرة من سيطرة الأسد. هذه صيغة مبسَّطة للقول أن كونها محرَّرة من الأسد لا يعني إطلاقاً أن تسود الحرية فيها، فثقافة التحرر السائدة في المنطقة موجَّهة ضد الأجنبي، رغم رحيل الاستعمار الذي نشأت بوجوده، وهي ثقافة عديمة الحساسية إزاء قضايا الحريات، بل هي تماماً على الضد من الحريات العامة. كانت تجربة المناطق المحررة قد ترافقت مع النظر إلى الأسد كمحتل، وكخارجي عن السوريين؛ هذا التوجه مع تبعاته خارج سياق نقاشنا الحالي.
على ذلك، ينبغي التمييز جيداً بين الانحياز إلى المناطق المحررة كموقف ضمن معركة محددة ومحدودة وبين الانحياز إليها بوصفها امتداداً للثورة، فأصحاب الانحياز الثاني منهما هم سُذَّج أو متكاسلون عن التفكير في أحسن الظنون، أو مستفيدون على وجه ما من استمرار هذا الالتباس. مع هؤلاء يصحّ التساؤل الخبيث عما يجعل معظمهم يعيش خارج سوريا إذا كانت تلك المناطق تجسّد ثورتهم؟
حتى ضمن منظار حرب التحرير، بات معلوماً أن سقف الطموحات الحالي يتوقف عند عدم العودة إلى سيطرة الأسد، مع مخاوف تتصاعد من تغير في توجهات الراعي التركي. أي أن هدف التحرير “بالكفاح المسلح” غير قائم، وقد أُسدل عليه الستار رسمياً منذ التدخل الروسي، ثم التفاهمات الروسية-التركية، وكلها أحداث بمباركة أمريكية. الترويج للضعف الحالي المزري بوصفه عارضاً سيزول بفعل التناقضات الدولية عمره سنوات أيضاً، ولم يتعدَّ يوماً عتبة الأمنيات، يسوّقها حالمون لحالمين آخرين في أحسن ظن.
ما نريد قوله، والتأكيد عليه، أن في وسع أيّ منا اتخاذ موقف منحاز لبقاء هذه المناطق محرَّرة من الأسد، من دون نطق كلمة ثورة وثوّار وما إلى ذلك. في وسع أيّ كان اتخاذ هذا الموقف وهو ينتقد بشدة كافة الفصائل المسيطرة فيها، ويعتبرها متسلطة ومستبدة أيضاً، فلا يكون دفاعه عن الوضع الحالي دفاعاً عن انتهاكاتها، ولا يكون تالياً في موقع مضاد للسكان الذين يعانون منها.
عطفاً على ذلك، لن يكون أخلاقياً الترويج لصورة مثالية عن الأهالي هناك، من نوع الإشارة إليهم كثوّار يعيشون على شعارات هم في الواقع أكثر من يعرف مقدار ما أُجبروا على الابتعاد عنها. لا يستوي اختزال هؤلاء إلى ثوار صامدين، ثم اختزالهم إلى محتاجين إلى الإغاثة. فنحن نعلم أن نسبة كبيرة منهم صامدة لأنها تفضّل أي خيار على خيار العودة إلى الأسد، وهناك نسبة صامدة لأن لا حدود مفتوحة أمامها لمغادرة الأراضي السورية، وقلة منهم مستفيدة من اقتصاد الحرب، ومن متاجرتها مع آخرين باسم الثورة.
إن أقصى هدف من الواقع الحالي مبني على أن الدول المعنية بالشأن السوري متفقة على عدم تقسيم سوريا، وغير متفقة حالياً على إعادة توحيدها لعدم اتفاقها على أسس التوحيد، فضلاً عن خلافاتها الأخرى إقليمياً ودولياً. ما هو مفروغ منه أن الأسد مستعد للتخلي عن كافة المناطق المحررة منه، وتلك التي تحت سيطرة قسد، إذا كان الاتفاق على توحيد سوريا يتضمن تنحيته، وقد يكون هذا هو حال أمراء حرب في المناطق الأخرى.
إذاً، المأمول من الوضع الحالي أن يضغط على حلفاء الأسد، وأن يجدوا في توحيد سوريا صفقة مجزية أكثر من التمسك به على هذا النحو. الأمل الوحيد المتاح هي صفقة دولية تنحّي عن مستقبل سوريا أسوأ أمراء الحرب، وتخالف تجارب انتهت بتوافق الخارج مع أمراء الحرب على تقاسمهم السلطة. هنا حسابات واضحة جداً، لا تتغذى على الأحلام ولا تغذّيها، والأهم أنها لا تخدم أمراء الحرب.
نفترض أن هناك مساحة للعديد من المواقف ضمن السياسة، مواقف لا تخلط بين الواقع الحالي والثورة التي انطلقت بمبادئ ومطالب مغايرة تماماً لما يريده مقاتلو الفصائل الذين يوصفون بالثوار. لسنا بهذا نصنع صنماً مقدَّساً للثورة نفسها، فالذين يصنعون الصنم هم بالأحرى الذين يعزّ عليهم لسبب أو لآخر الاعتراف بانقضاء زمنها، ولو تطلب ذلك منهم إلصاق كافة الموبقات بها بوصفها مجرد أخطاء صغيرة تعترض مسيرة كافة الثورات.
في السياسة أيضاً، نستطيع أن نكون مع بقاء الإدارة الذاتية “الكردية”، من دون أن يعتبر الموقف انحيازاً إلى قسد، ومن دون أن يمنع أي نقد لها مهما بلغت شدته أو جذريته. هذا الموقف، بخلاف الاصطفافات السائدة، مكمِّل لموقف ينحاز إلى بقاء أكبر ما يمكن من المساحات خارج سيطرة الأسد من أجل الضغط على داعميه، وأقصى ممكناته الأخلاقية أن يتلازم مع نقد ينحاز لعموم السكان تجاه سلطات الأمر الواقع.
السائد هو خارج المنطق إذ يقف أنصار “ثوار” المناطق المحررة ضد قسد بالمطلق، ولا تمانع أكثريتهم تقاسم مناطق قسد مع قوات الأسد في حال سحبت واشنطن مظلتها. أبعد من ذلك، تتماهى هذه الأكثرية مع المطالب التركية بسحب القوات الأمريكية من سوريا، مع أن بقاء الأخيرة فيه الضغط الأقوى على حلفاء الأسد للقبول يوماً بتسوية قد تتضمن الحد الأدنى من مطالب السوريين. نظرة أنصار قسد، والأكراد عموماً، إلى تلك الفصائل وأنصارها ليست أحسن حالاً، رغم أن وجود مناطق خارج سيطرة الأسد يخدم بقاء قسد خارج مطامعه وأولوياته، ومخاوف أهالي تلك المناطق من تقارب تركي مع الأسد لا تخصهم فقط، بما أن السياسة التركية الجديدة تُسوَّق كتوجّه يخدم الأمن القومي ويستهدف الأكراد أساساً.
من وجوه الكارثة السورية أن نقاشاً بسيطاً كهذا، حول المناطق المحررة وآفاقها، كان ينبغي حدوثه قبل سنوات. لكن وجهاً آخر للكارثة يهوِّن من الوجه الأول، هو أنه لا داعي لمثل هذا النقاش من وجهة نظر أصحاب الأصوات العالية، أولئك الذين عثروا على الإجابة السحرية الشافية، والمربحة، في كلمة “ثورة”.
Sorry Comments are closed