لمناسبة رحيلها، يوم الأربعاء الفائت، عادت منتهى الأطرش إلى دائرة اهتمام سوريين معارضين، ليعود التذكير بها وبرمزيتها بعد سنوات طويلة من ابتعادها عن أي نشاط أو تصريح. الراحلة هي ابنة قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش، وهذا ليس بالتفصيل قليل الأهمية في سيرتها، رغم انقضاء قرن على تلك الثورة.
ربما تكون الراحلة قد وقعت تحت وطأة اسم أبيها، ما جعل مواقفها ضد سلطة الأسد تُحسب امتداداً للجفاء بين الأب والأسد، ثم يُحسب انضواؤها ضمن الثائرين في 2011 امتداداً لثورة أبيها. هذه المعاني سنجدها حاضرة بقوة مع نعيها الذي انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، أو في مواقع سورية وعربية، ليكون استحضار الأب سنداً لسيرة عادية لامرأة غير مطالبة أصلاً بتقديم ما هو خارق أو استثنائي، وغير مطالبة أيضاً بأن تكون استمراراً لذلك الأب مهما علا شأنه.
لا نناقش هنا حق الراحلة من الاهتمام، بل طبيعة الاهتمام التي لا تُسأل هي عنها، حتى إذا كانت راضية بها في حياتها. فاستحضار أبيها عبرها، من قبل آخرين، له دلالة عميقة على طريقة تفكير سائدة، وعلى واقع سوري يجد تعبيراً عنه بتلك الطريقة. من ضمنها، وهذا مستغرب صدوره حقاً عن مناصرين للثورة، الإشادة بالراحلة كوريثة لما يُشاد به من مُثُل تُنسب للأب. وجه الاستغراب المسارعة إلى الإشادة بفكرة التوريث، ولو أتى الثناء مقروناً بقيم معينة، لأن تقسيم الوراثة البيولوجية بين حميدة ومذمومة لا يلغي الاعتراف بالفكرة التي نفترض أن تكون مذمومة من أساسها وبتفرعاتها، خاصة بسبب معاناة السوريين منها.
الأصولية التي ينجم عنها تبنّي فكرة التوريث والإشادة بها يدعمها واقع بعيد جداً عن القيم الموروثة، وهنا يبدو أهم ما تمثّله السيدة الراحلة هو إرث أبيها كشخصية وطنية جامعة وفق السردية الدارجة. ثمة عوز شديد على صعيد المسألة الوطنية السورية، انكشفت فداحته منذ عام 2011، يتم التعويض عنه باستحضار الماضي السحيق للبرهان على أن الاجتماع الوطني ممكن مرة أخرى. المنبت المذهبي للوريثة، ولأبيها من قبل، حاضر بقوة لتعزيز تلك السردية عن أغلبية مذهبية سبق أن أسلمت قيادتها الثورية لدرزي تخلى عن أقلويته، مثلما سبق أن أفسحت بين قياداتها السياسية مكاناً لزعيم مسيحي خرج عن قوقعته المذهبية مدافعاً عن الإسلام.
هناك فهم سائد لتلك المرحلة أقل ما يُقال فيه أنه رومنسي جداً، وأنه تبسيطي واختزالي بأخذه خلاصات روّجها حكم البعث والأسد من دون التمحيص في حيثياتها الحقيقية، وفي الصراعات الداخلية التي كانت موجودة بين كتل ومناطق سورية. وأول ما يتم تغييبه خلف الرومنسية أن صراع اليوم من طبيعة مختلفة جداً عن صراع الأمس، فالثورة السورية الكبرى كانت ضد الأجنبي، بصرف النظر عن أسباب اندلاعها، بينما ثورة 2011 كانت ضد “سوريين” بصرف النظر عما قد يُقال فيما يخص سوريتهم.
في ثورة التحرر يكون الاجتماع الوطني متاحاً، من دون تحميله صفة الاستدامة، ومن دون القفز على الاختلافات العميقة بين المنضوين فيه. أما في ثورة الحرية فالاجتماع الوطني، إذا كان موجوداً على السطح، ينهار مع انطلاق الثورة، لتكون الأخيرة بالتعريف حرباً أهليةً. عدم الانتباه إلى هذا الفرق الجوهري، أو تجاهله، هو بمثابة اصطناع لزمن ماضٍ جميل، ومن ثم الحنين إليه.
ليست فقط الثورات السورية ضد الفرنسيين ما وُضِع في تلك المكانة، بل أيضاً الفترة التالية على الاستقلال التي صار معمَّماً النظرُ إليها كعهد ذهبي للديموقراطية، وعلى نحو يَظْهر فيه السوريون نموذجاً مغالى في أهليته للديموقراطية قبل الانقضاض عليها من شياطين البعث، أو من الشيطان الطائفي الأقلوي بحسب روايات أصبحت سائدة. ولئن كان ذلك العهد بلا شك أفضل بما لا يُقارن من حكم البعث ثم الأسد فإن النظر إليه كزمن جميل، وفق الرومنسية ذاتها، يختزل الانقلاب على الديموقراطية إلى أشرار تمكنوا من التغلب على أخيار أفاضل بسبب نبل الأخيرين الذين تبقى تجربتهم خارج النقد المستحق، مع صمت عام يتعلق بالفترة التي سبقت انقلاب البعث، والتي يُشار إليها بوصفها “عهد الانفصال” من دون منحه القيمة الممنوحة للسنوات السابقة على الوحدة مع عبدالناصر.
استحضار الماضي مع تجميله هو أصولية ترى مستقبلها في الماضي، أو على غراره، وهذا إذا كان يعفي من نقد الماضي “المشرق” فهو يعفي تالياً من السؤال عن المستقبل، وهكذا يكون الحل لخراب الحاضر باستحضار روح الماضي، مع القفز أيضاً على ما يؤسس له الخراب الراهن.
على القياس نفسه، يأتي الكثير من التصورات الشائعة عن سوريا المستقبل، من دون الأخذ في الاعتبار ألغام “الزمن الجميل” الغابر. التصور الإسلامي لمستقبل سوريا هو الأكثر إفصاحاً عن رومانسيته المتصلة بأصوليته، بينما الرومانسيات الأخرىتبدو “واقعية” وأمينة جداً لحقل الأفكار المعاصرة، وفي الوقت ذاته نائية جداً عن الواقع، بل مفارقة له بقدر ما فيها من تصور “متعالٍ” عن المسألة الوطنية تحديداً.
هذا الفراغ ، فراغ الساحة من المشاريع التي لها سند واقعي، يصب في مصلحة الأسد الذي يروّج للقبضة المخابراتية بديلاً عن اجتماع وطني لا يمكن تحقيقه، ليبدو هذا الطرح هو الواقعي بالمقارنة مع أطروحات شريحة تتناقص من الحالمين. إلى جوار الأسد، شهدنا ونشهد تنويعات أخرى مفادها تفضيل الميليشيات الأكثر انضباطاً والأقدر على بسط سيطرتها على محكوميها “ومن ضمنها فصائل إسلامية” بما يُضمر عدم الثقة بقدرة أولئك المحكومين على الاجتماع الطوعي.
التصدي لذلك الميل الخارجي إلى دعم قوى محلية غير ديموقراطية لن يكون مجدياً باستحضار “أمثولات” من الماضي، لأنها أولاً من الماضي الذي لن يعود، ولأن اصطناع الزمن الجميل لن ينطلي على الخارج الذي يعرف ذلك التاريخ جيداً، وبما يخالف الصورة الزاهية الرائجة. السوريون أنفسهم سيكونون بغنى عن زجليات الزمن الجميل بقدر ما يكون حاضرهم أقل قتامة، وبقدر ما تتناقص حاجتهم إلى اصطناع الرموز، خاصة تلك العابرة للطوائف، والتي يكون استحضارها دلالة على أن العبور فردي ومحدود جداً، وأن الزمن الذي يصبح فيه شأناً لا يُحكى فيه بعيد المنال.
عذراً التعليقات مغلقة