من عفة الأسد إلى إباحية الثورة!

عمر قدور5 يونيو 2022آخر تحديث :
من عفة الأسد إلى إباحية الثورة!

في الأسبوع الثاني من تموز 2012، بدا السائق الذي أقلّنا من بانياس إلى اللاذقية مقتنعاً لأقصى حد بأن الطائفية صناعة إيرانية، وبأنه لو كفّت إيران عن التدخل في سوريا لما كان هناك مشكلة بين العلويين والسُنة، مستشهداً بعدد الزيجات المختلطة طائفياً في الجارتين بانياس وجبلة. السائق من عائلة سُنية معروفة في بانياس، وكان قد أتى بتوصية لكي يمضي بنا في طرق فرعية خالية من حواجز المخابرات والجيش والشبيحة، أي أنه بادر إلى الحديث مرتاحاً إلى كوننا في الجهة نفسها من الصراع.

لا شك أنها صورة وردية جداً، وليست الفكرة بجديدة، أن تُرمى المسؤولية على الخارج الذي لولاه لكان الوئام سهلاً بين مكونات الداخل. يزيد من المفارقة أن مخابرات وجيش الأسد وشبيحته لم يقصّروا آنذاك إطلاقاً في الممارسات الطائفية المكشوفة في بانياس والبيضا، مع تمرين طائفي لمرة واحدة قاصمة في مدينة “الحفّة” التابعة للّاذقية.

كما هو معلوم، كان إعلام الأسد قد استعجل الشحن الطائفي، مثلاً عبر امرأة علَوية صُوّر لها مشهدٌ، بمثابة برومو راح يتكرر على قناة الدنيا/سما، تقول فيه المرأة ما معناه: كيف كنا قبلكم؟ أي أنها ترثي حال العلويين قبل مجيء الأسد إلى السلطة. وما كان الإعلام “الرسمي” يتحرج من التصريح به تكفلت به آلته الضخمة على وسائل التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى التخلي نهائياً عن الحياء بطريقة كاريكاتورية مع تصريح مستشارة بشار بثينة شعبان إلى سكاي نيوز الإنكليزية عن قيام المعارضة باختطاف علويين من قرى الساحل إلى الغوطة ثم قتلهم بالسلاح الكيماوي.

قيل الكثير عن مخطط الأسد استدراج ردود أفعال طائفية من خلال الشحن الطائفي المكشوف، وقيل الكثير أيضاً عن محاولته استلهام تجربة أبيه في القضاء على انتفاضة الإخوان المسلمين نهاية السبعينات وبداية الثمانينات. ما ينبغي أن يلفت الانتباه هو ذلك الافتراق عن تجربة الأب في التصدي للإخوان، فحافظ الأسد “بصرف النظر عن ممارساته” لم يُظهِر على الإطلاق أي خطاب طائفي في تلك المواجهة، وكان من ضمن عدته الفكرية الإصرار على التمسك بالدين الإسلامي والعروبة والتقدمية، في مواجهة من يتهمهم بالعمالة والرجعية وخيانة الإسلام والعروبة.

كان خطاب الأب متسقاً مع العفة الأسدية المعهودة إزاء المسألة الطائفية، على عكس الابن الذي اندفع سريعاً إلى إباحة ما كان محرّماً حتى انطلاق الثورة. من التمايزات بين عهدي الأب والابن، يبرز العامل الخارجي الذي لم يكن حاضراً هكذا نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، ولدينا مثالان فاقعان جداً ينسجمان مع الإباحة المستجدة؛ الشعارات الطائفية التي أتت بها باكراً الميليشيات التابعة لإيران، وصولاً إلى تحذير وزير الخارجية الروسي لافروف من سقوط الأسد واستلام السُنة مقاليد السلطة في سوريا.

من دون نفي العوامل الداخلية، يتوجب علينا الانتباه أيضاً إلى الخارج الذي قد يلعب “موضوعياً” دوراً حاسماً في إذكاء المسألة الطائفية، والمثال الإيراني حاضر بقوة كسند “أو شقيق أكبر” لولاه لما تورط الأسد في عنف وخطاب طائفيين مفضوحين. وعلينا الانتباه أيضاً إلى أن الردح الطائفي الذي استُخدم ضد العروبة والإسلام، من نوع شاربي بول البعير….إلخ، هو صناعة ثقافية إيرانية عريقة لا صناعة محلية. في سوريا ولبنان والعراق واليمن، لنا أن نتخيل “ولو كتمرين فكري” انتهاء التدخل الإيراني وما سيسفر عنه من حسابات داخلية مختلفة تؤدي إلى قواعد اشتباك أو تسويات مغايرة جداً لما هو حاصل الآن. ربما كان ذلك السائق البانياسي محقاً من حيث لا يقصد.

الرواية شبه السائدة لدى كثر هي أن الأسد لعب ورقة الطائفية، واستدرج بها الثائرين عليه. ثمة هنا رد فعل محتم، ودائرة مغلقة يمسك فيها الأسد زمام المبادرة فارضاً على خصومه طبيعة أفعالهم! إلا أن هذا وحده لا يفسّر الانفجار الطائفي “العظيم”، إذ يصعب تصديق أن الخطابات الطائفية الصادرة عن خصوم الأسد هي مجرد ردود أفعال استُدرجوا إليها، والمقصود هنا تنظيمات وفصائل إسلامية على أسس طائفية معلنة قد لا يجوز التهويل مما تمثّل، لكن لا يجوز على الإطلاق إغفاله حتى إذا لم يقيض النجاح لجماعة “الدم السُني واحد”.

كان من المفهوم مع انطلاق الثورة نبش تلك الطائفية المسكوت عنها اضطرارياً بحكم العفة الأسدية المزعومة؛ كان أي حديث في المسألة الطائفية قد يودي بصاحبه إلى الاعتقال لسنوات بتهمة “وهن نفسية الأمة” أو ما شابه ذلك. بل كان مفهوماً، بعد طول كبت، أن يحدث ذلك الانتقال إلى ما يبدو نقيضاً تاماً؛ من العفة القسرية إلى البورنو، بمعنى الإباحة التامة.

ما هو غير مفهوم، وغير مبرر، بعد أحد عشر عاماً أن يتوقف الأمر عند ذلك الحد. استئنافاً للمجاز السابق، لا يمكن ولا يجوز اختصار الجسد بحدّي العفة والإباحية، فإما هذه أو تلك، والمسألة هنا ليست أخلاقية بقدر ما فيها تنميط وإهدار لإمكانيات فهم وتفهم الجسد الإنساني بتعقيداته وثرائه. على القياس نفسه، هناك تكرار “بلا كلل أو ملل” بين من يعيدون الحديث الطائفي نفسه تقريباً، وبين من يتعففون عنه بالمطلق. هناك من استقروا على اعتبار العامل الطائفي هو الأعلى تأثيراً في سوريا، ومن استقروا على إنكاره أو نفي تأثيره، والمعرفة تكاد تكون غائبة تماماً في الحالتين.

لقد تراكمت خلال هذه المدة كمية ضخمة جداً من الكلام الطائفي، وترسخ البعض منه حتى أصبح من البديهيات التي استمدت قوتها من التكرار والإصرار ليس إلا. وينبغي لذلك أن يستدعي تساؤلات عما إذا كنا قد أصبحنا أكثر معرفة بالمسألة الطائفية، أو عما إذا كنا قد أصبحنا أكثر معرفة بعموم أحوالنا من خلال هذا الحد من المعرفة بالمسألة الطائفية. وهل أصبحنا، على سبيل المثال، أكثر تمييزاً بين آليات العصبية الطائفية وبين آليات الاستثمار فيها. أم أن الأمر بدأ واستقر كأغنية لاقت النجاح والرواج، ليتوالى المؤدون على تقديم اللحن البسيط ذاته الذي تطرب له الآذان.

في الثامن من أيار2011 اعتُقل تقريباً كل شباب ورجال بانياس من السُنة، وزُج بهم في الملعب البلدي. أُضيف إلى المعتقلين ثلاثة علويين، وكان الجميع معصوبي العيون، لكن المعتقلين السُنة علموا بوجود الثلاثة بأسمائهم لأنهم ميّزوا أصواتهم. تناقل المعتقلون السُنة في ما بينهم خبر وجود هؤلاء بفرح. في تفسير الفرحة، كما روى لنا واحد من الثلاثة، ذلك الشعور بالاطمئنان إلى أن مآل الاعتقال لن يكون الأفظع مع وجود علويين، يخالطه ذلك الارتياح العاطفي البسيط إلى وجود أشخاص “من الجهة الأخرى” يشاركونهم معاناتهم. ربما يستحق هذا الفرح المركّب، الملتبس بمحبة يكنونها لهؤلاء الثلاثة، تفكيراً جاداً لا يراهن على التبسيط والسذاجة فحسب.

المصدر المدن
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل