وضعت المهرّبة “أم محمد ض” عدداً من الخيارات للعبور من الضفة اليسرى إلى الضفة اليمنى من نهر الفرات: معابر النظام، أو معابر الدفاع الوطني. تابعتْ: معابر الدفاع الوطني لا يوجد فيها “تفييش أو تفتيش”، هؤلاء منّا وفينا، من “عجياننا” أو كما تسمونهم في المدن من “الزعران”، لا يعبر معابر النظام المدرجةُ أسماؤهم في قوائم المطلوبين، أو من عليه خدمة عسكرية، لأنه سيتمّ القبض عليه. استدركتْ: لكن لا مشكلة كله “يتدبّر” وحركت أم محمد أصبع الإبهام على السبابة في إِشارة سوريّة إلى “المال” من ضمن لغة الجسد في توصيل الرسائل.
قلتُ لأم محمد: سأعبر وأعود بـ “الطرادة” نفسها بهدف خوض التجربة فقط!
ابتسمت السيدة ابتسامة الخبير، وقالت: هذا ترفٌ لم أسمع به من قبل. ما كانت تعده أم محمد ترفاً، كان بالنسبة لي تجربة موجعة، لأنني عشتُ على شاطئ هذا النهر حتى نهاية المرحلة الثانوية، بل إن المعبر الذي سأعبر منه يقع في أرض ورثتها من والدي، الذي ورث قسماً منها من جده. ربما لا تعرفُ ماذا يعني أن يكون صباحك يومياً على شاطئ نهر الفرات، لتجد نفسك فجأة أنك عابر غريب تحتاج إلى مهرب/ـة تحميك من “زعران الدفاع الوطني” كي تصل إلى بيتك.
يبدو أن المفردات لا تريد أن تفارق دلالاتها القديمة، فما تقصده أم محمد بـ “المعبر النظامي” هو بين قسد والنظام السوري، تساءلتُ: مَن مِن الطرفين يقع في حقل “النظامي” اليوم؟، ما الذي يجعل من قسد وهي تسيطر على نفط المنطقة برعاية أميركية “نظامية”؟ وما الذي يجعل من النظام السوري بعد كل هذا القتل “نظامياً”؟
لكن إن لم يكن أولئك نظاميين فمن هو النظامي في سوريا اليوم؟ أم أن البلد غدت كلها غير نظامية وبحاجة لإعادة تأهيل دولية كي تصبح نظامية، ما لاحظتُه إبان زيارتي لـسوريا بعد عشر سنوات من الغياب مؤخراً عبر معبر يسيطر عليه إقليم كردستان العراق وقسد، أن كل سوري صار لديه دلالات خاصة، لنقل: كل سوري صار ديكارت، والحقيقة عنده هي قبل “جبال البيرينيه” غير الحقيقة ما بعدها، فكل سوري، اليوم، لديه “جبال البيرينيه” الخاصة به، تبدأ حقيقته أو تنتهي وفق ما يريد.
التفييش والتفتيش حقوق لحامل السلاح في هذه البقعة الجغرافية من العالم، لا خصوصية لجسد أو حرمة له
تابعت السيدة: في المعابر النظامية أوراق وتفييش وتفتيش، إذاً بقي “التفييش” جزءاً من النظامي في سوريا بعد كل هذا القتل والدمار، وصار المقصود بالمعبر النظامي أنك تمر عبر “قنوات النظام السوري”، لا يمكن للبنية العميقة للنظام السوري أن تتعلم من التجربة أو تغير شيئاً من آليات تفكيرها. بدا لي وأنا أتجول في منطقة شرقي الفرات، وبحسب ما سمعت ممن التقيتهم، ممن زاروا معظم “السوريات الأربع” أنَّ التفييش والتفتيش حقوق لحامل السلاح في هذه البقعة الجغرافية من العالم، لا خصوصية لجسد أو حرمة له، أي شخص يعتقد، ما دام يحمل بندقيته، أن من حقه أن يلمس جسدك، ومن حق أي حامل للسلاح أن يأخذ مستندك لتفييشه، من سيفيّش أو يفتش القلوب والأرواح السورية بعد الذي صار؟
صكّ السوريون مصطلح الـتفييش الذي يعني فحص اسم ما في قوائم المخابرات وهل هو مطلوب لفرع من فروعها؟ ولا أعلم إن كان للكلمة علاقة بالمعنى المعجمي: تفيش الرَّجُلُ: تَبَجَّحَ، وتَفَاخَرَ، فكأن التفييش هاهنا يعيده إلى حجمه، ودائرة الرعب، أو كأنه الفيشة بمعنى ضربة الحظ.
لم تصدق السيدة أنّني كاتب ذو جذور صحفية، وأريد أن أعيش التجربة لأكتب عنها، لكن ما يهمها هو أن تأخذ أجرتها فحسب، وقالت: إنها مسؤولة عني إبان عبور النهر، ما بعد النهر ليست مسؤوليتها، لأن المخابرات العسكرية أو الفرقة الرابعة قد تكون بانتظار أي شخص يعبر، على الرغم من أن هناك مركز مصالحة، في منطقة الميادين، سيبقى مفتوحاً لنهاية الشهر السادس من عام 2022، ونصحتني في حال تم اعتقالي أن أقول: إنني أتيت إلى هذه الضفة بهدف الذهاب إلى مركز المصالحة!
سمعتُ من أشخاص عديدين أنَّ قادة فصائل في الجيش الحر، وعدداً من قادة داعش عبروا وصالحوا، وحصلوا على “بطاقات مصالحة”، يمكنهم إبرازها عند كل حاجز. كثيرٌ منهم لم يشترك بأي نشاط ضد النظام السوري، حصلوا على البطاقة، ليقولوا للنظام: نحن نقرُّ لك بأنك مالك الخوف وحارسه، ولا نستطيع أن نواجه بطشك، نؤكد لك أننا عدنا إلى أقفاص الرعب، التي وضعتنا فترة طويلة فيها.
تذكرتُ صورة ثلاثة من أولاد أخواتي قتلهم النظام، فحضرت قصيدةُ أمل دنقل التي كنت أستفيض في تحليلها لطلاب اللغة العربية في جامعة دمشق، استذكرتُ تلك الجملة المدهشة المتعِبة: “كنت أغفر لو أنني متُّ.. ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ”.
بمرور الأيام رحتُ أقرأ الكتب التي تتحدث عن المغفرة، وقيم التسامح، وأتأمل تجارب الشعوب التي تجاوزت الحروب الأهلية، ومراحل الأنظمة المستبدة التي قتلت شعوبها، أنظر في تاريخ هولندا وكيفية تسامحهم مع الألمان، وكيف بنوا بلادهم ومحاولة نسيان السلبي ليبنوا ذاكرة جديدة، وأتساءل اليوم: كيف يمكن أن نمشي إلى الأمام، خاصة حين تحضر صور أحبة قتلوا ويلاحقني أمل دنقل بسؤال آخر: “هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟”
كانت أم محمد مشغولة بمراقبتي، مثل أي مهرّب في العالم كون تلك المهنة تستحضر التوجس، فيما كنت مشغولاً بالحصول على المعلومة، وقالتها بصوت واضح عبر دعابة: إما أنك أهبل، أو أنك خطير جداً؟ قلتُ لها: أظن أن الأولى أريح لك في التفسير، وتجعلك غير متوجسة.
بعد مغيب الشمس، وكما قالت أم محمد بنحو ساعة سمعتُ صوت الطلقات الثلاث، وهي اتفاقنا مع أم محمد التي قالت: إن كانت الطلقات خمسة فهذا يعني أن الصفقة لم تتم بين الطرفين على ضفتي النهر بوساطة المهربين.
وهكذا خلال أقل من نصف ساعة كنت في نقطة العبور وهي نقطة جسر مدينة “الميادين” المدمر.
حين وصلتُ إلى النقطة تفاجأت كثيراً إذ وجدت نحو عشرة أشخاص وأنا الوحيد بينهم الذي لا يحمل بارودة الكلاشينكوف على ظهره، حتى أم محمد كانت تحمل بندقية صغيرة مطوية، للحظة توجستُ، لكن لأنني أعرف آباء معظمهم، أو أعرفهم شخصياً بصورة أو بأخرى، ذهبت لحظة التوجس سريعاً، ثمة شعور ما لا تمنحك إياه إلا منابت الطفولة، إذ تعرف كل شخص وتاريخه، تلك لحظة تقاطع بين الجغرافيا والتاريخ، تشعر أنك قابض عليها بين يديك ولا تخاف منها، لا تمنحك إياها القوانين أو الدول، ليس لحظة وقوف ضد القانون أو تمرد عليه، بل لحظة ثقة أنك جزء من تاريخ هذه الجغرافيا، وأن لك دوراً ما فيها أو في بنائها أو تحريرها أو زراعتها كأن زراعة الأرض لا تزرع نباتات بل ذكريات، تشعر أنك جزء منها.
كان نهر الفرات قد أسلم نفسه، للمهربين، كأنه يريد أن يغفو في هذه المرحلة من العمر، ولا يرغب أن يكون شاهداً على تلك المرحلة من تاريخ سوريا
كنا معاً: براميل نفط، وشلول من التبن، وكراتين موز وبقرتان وعشرة نعاج وأنا.
بعد أن وضعوا الأغراض في “الطرادات”، وربطوا البراميل بحبل التفَّ عليها عدة مرات بطريقة محترفة، حيث صفت أفقيا بجانب بعضها على مسافة تتيح لمستعمل الحبل أن يربطها إلى بعضها، تم رميها بالنهر أولاً بأول، وسحبتها إحدى الطرادات، انطلقنا.
كان نهر الفرات قد أسلم نفسه، للمهربين، كأنه يريد أن يغفو في هذه المرحلة من العمر، ولا يرغب أن يكون شاهداً على تلك المرحلة من تاريخ سوريا، لم نكن نعبر النهر، كنا نعبر رجلاً عليلاً مريضاً فقد عنفوانه، ولا أحد يرعاه. حين وصلنا الضفة الأخرى، بعد نحو أربع عشرة دقيقة، كانت البضاعة تنتظرنا من الجهة الأخرى، أفرغوا الحمولة وأخذوا يملؤون الطرادات من جديد.
نزلتُ من الطرادة، اعتفرتُ كمشة تراب من أرضي، شممتُ فيها عَرَق أبي وجدي، كأنني أتطهر من فراق عقد من الزمان، نظرت إلى بيتي، دون أن أذهب إليه، وقلت: البيت بيتك إن كان آمناً، وإن كنت لا تشعر بالخوف وأنت فيه.
وفيما كان المهربون مشغولين بالتفاوض حول تفاصيل البضاعة وأجورها وتحميلها، ألقيتُ بنفسي في إحدى الطرادات عائداً، محاولاً استذكار كيفية التجذيف الذي تعلمته وأنا في الرابعة عشرة من عمري، وأخذت أجذف وأخبط الماء لأعود إلى الضفة الأخرى، غير آبه بأصوات إطلاق النار التي كانت تبرق في ذلك الليل الموجع.
Sorry Comments are closed