عندما يقول وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إنه ليس من الحكمة اعتبار روسيا شريكاً يعوّل عليه في الشرق الأوسط، لا يقصد اختلاف الرؤى بين واشنطن وموسكو فحسب، بل يقصد أيضاً، وهذا هو الأهم، أن الأخيرة غير قادرة على فرض أجندتها على حلفائها الإقليميين.
ويعود عدم الاهتمام الأميركي كثيراً بالاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط، باستثناء سورية، إلى أنه لا توجد استراتيجية روسية مستدامة واضحة المعالم والأهداف، فخطواتها وأهدافها قصيرة المدى، وتدابيرها انتهازية، لتحصيل اختراق هنا، أو هناك، أو لإحداث إرباكٍ مؤقتٍ لأطراف أخرى.
تعكس التجربة الروسية في سورية، خلال الأعوام الأربعة الماضية، حدود القوة الروسية والمأزق الكبير لاستراتيجيتها، فعلى الرغم من المكاسب العسكرية التي حققتها في سورية ودورها في تغيير خرائط النفوذ، تبدو عاجزةً عن استكمال سيطرتها على كامل الجغرافيا السورية، وعاجزة عن استثمار نجاحاتها العسكرية على المستوى السياسي. وقد كشف الانسحاب العسكري الأميركي من الشمال والتمركز في الشرق، حدود القوة الروسية: هكذا، وجدت موسكو نفسها مضطرّة إلى الاعتراف بالعملية العسكرية التركية شمالي سورية واقعا قائما، ووجدت نفسها أيضا عاجزة عن إجبار “وحدات حماية الشعب” الكردي على الانصياع إلى مطالب النظام السوري، ووجدت نفسها ثالثا عاجزةً عن توسيع نفوذ النظام نحو حقول النفط، لتكتفي، بدلا من ذلك، بالصراخ السياسي في وجه الولايات المتحدة “الأميركيون قطّاع طرق على المستوى الدولي”. ويعود أسباب هياج روسيا إلى أن التراجع الأميركي عن سحب القوات العسكرية من سورية قطع الطريق عليها للانفراد بتركيا، لاستكمال مسار التفاهمات العسكرية والسياسية، كما قطع الطريق عليها للاستفادة من حقول النفط، باعتبارها شريانا اقتصاديا يمنح النظام في دمشق سيولة مالية، بعدما تبيّن أن معبري نصيب مع الأردن واليعربية مع العراق لم يثمرا اقتصاديا. وحتى على صعيد العلاقة مع إسرائيل، فيمكن القول إن لجوء إسرائيل إلى روسيا لتحصيل تفاهماتٍ في الملف السوري لا يصدر من خطوة استراتيجية، بقدر ما هو لجوء تكتيكي فرضته متغيرات الأزمة السورية، سرعان ما ينتهي مع انتهاء هذه الأزمة.
يحدث هذا المأزق الاستراتيجي لروسيا في سورية التي تعتبر درّة التاج الروسي في منطقة الشرق الأوسط، فكيف الحال في البلدان الأخرى… على الصعيد الإيراني، فشلت روسيا في إقناع الغرب بضرورة التعاطي والاعتراف بدور أصحاب العمائم، فيما فشلت في المقابل في إقناع إيران بتقديم تنازلات للغرب، سواء على صعيد سياستها في المنطقة، أو على صعيد برنامجها النووي والصاروخي. لقد بقيت روسيا في حالٍ من النوسان السياسي بين الغرب وإيران، جعلها لاعبا يفتقر الحضور الكافي، وقد برز ذلك خلال الاتفاق النووي “خمسة+1” مع إيران وخلال انهيار الاتفاق.
وحاولت روسيا، خلال الأعوام السابقة، دخول الساحة العراقية من خلال تحصيل تفاهم مع بغداد حيال بعض ملفات المنطقة، لكن الحضور القوي لإيران والولايات المتحدة جعلها تنسحب من المشهد، أو لم تعد تكترث به. ويعتبر خبراء في الشؤون الاستراتيجية أن روسيا تعتمد مقاربة حذرة في علاقاتها مع العراق، آخذة في الحسبان المصالح الكبرى المتنافسة للولايات المتحدة وإيران في هذا البلد.
وفي هذه الأثناء، أدرك صنّاع القرار في الكرملين أن علاقتهم الممتازة مع مصر السيسي تحتاج إلى استكمال، فمصر وحدها غير نافعة للسياسة الروسية في المنطقة. ومن هنا، اتجهت موسكو نحو الخليج العربي، وتحديدا نحو السعودية، من أجل بناء تفاهماتٍ في بعض الملفات السياسية والاقتصادية، لكن هذه الجهود لم تفلح في تحقيق شيء يذكر؛ فلا موسكو قادرة على تقديم شيء للرياض، ولا الأخيرة قادرة على فعل الشيء نفسه.
جديد مستجدات السياسة الروسية في المنطقة ما كشفته وسائل إعلام غربية عن وجود مرتزقة روس تابعين لشركة “فاغنر” يقاتلون في ليبيا إلى جانب خليفة حفتر. ومع أن هذه الشركة ليست مرتبطة رسميا بروسيا، إلا أن تحرّكاتها في الشرق الأوسط تأتي بأوامر مباشرة من وزارة الدفاع الروسية. وعادة تلجأ الدول إلى المقاتلين المرتزقة في حالتين: عندما يكون للجهة الداعمة نقص في عدد المقاتلين، وهذه الحالة لا تصحّ على روسيا. وعندما لا ترغب الجهة الداعمة في الإفصاح عن وجودها في منطقةٍ ما، لأنها لا تريد الانخراط بشكل كافٍ، وهذه الحالة تصدق على روسيا في ليبيا.
لا تمتلك روسيا استراتيجية في ليبيا، وغير قادرة أصلا على بناء مثل هذه الاستراتيجية. إن حضور مقاتلين من “فاغنر” يحمل سمة التعطيل والتخريب على المصالح الأوروبية في هذا البلد، ورسالة سياسية بأن موسكو تستطيع الوصول إلى مناطق لم تكن سابقا ضمن اهتماماتها. وعليه، لا يوجد في ليبيا حليف قوي لروسيا، ولا يستطيع حتى الجنرال خليفة حفتر نفسه حرق أوراقه الأوروبية من أجل روسيا، وكل ما في الأمر تقاطع مصالح مؤقتة، من أجل استخدام كل طرفٍ الطرف الآخر لبعث رسائله السياسية.
يرى مراقبون غربيون أن روسيا تفتقد استراتيجية واضحة مدفوعة بأهداف محدّدة في الشرق الأوسط، فتدابيرها محكومة بسياسةٍ معممةٍ وظيفيا، من خلال تحسين امتيازاتها العسكرية والاقتصادية والسياسية قصيرة المدى، في مقابل تقليل الامتيازات قصيرة المدى للخصوم. وهذا ما يفسر لجوء موسكو إلى أطراف في الشرق الأوسط ممن يغرّدون خارج السرب الأميركي، ليس لبناء تحالفٍ مستدام يأخذ صفة الاستراتيجية، وإنما من أجل اختراقاتٍ محدودة الأجل وإحداث إرباك في النفوذ والمصالح الغربية في منطقتنا.
وأسباب غياب استراتيجية روسية مستدامة وثابتة تعود إلى أربعة عوامل رئيسية: عدم وجود قوة عسكرية كبيرة قادرة على التوزع في بقع جغرافية متنوعة على الصعيد العالمي بشكل عام، وعلى صعيد الشرق الأوسط خصوصا. غياب قوة اقتصادية تكون رديفاً وداعماً للقوة العسكرية، فالاقتصاد الروسي ما يزال متخلفا، وما يزال، في جزءٍ كبير منه، اقتصادا ريعيا يعتمد على تصدير النفط والغاز. غياب الأيديولوجية السياسية الضاغطة، كما كان الأمر مع الاتحاد السوفييتي. افتقار للقوة الناعمة التي يمتلكها الغرب في المنطقة، خصوصا الولايات المتحدة، والمقصود بالقوة الناعمة، وفق اجتراح المفكر السياسي جوزيف ناي، القدرة على الجذب والضم من دون الإكراه أو استخدام القوة وسيلة للإقناع.
عذراً التعليقات مغلقة