قبل خمسة أيام اجتمع رؤساء كنائس مسيحية في دير مار أفرام السرياني-معرة صيدنايا، بحضور السفير البابوي في دمشق ماريو زيناري، ليصدروا بياناً قد يكون هو الأول الذي يعبّر عن توجه الفاتيكان الذي كان يكتفي من قبل ببيانات مائعة وعمومية تركز على ما يعتبره الجانب الإنساني في الشأن السوري. اجتماع رؤساء الكنائس أتى بعد ثلاثة أسابيع من زيارة موفد البابا بيتر تركسونرنيس ولقائه ببشار الأسد، وبحسب صفحة الأخير على فيسبوك تضمنت رسالة البابا “موقفه الداعم لاستعادة الاستقرار في سوريا ورفع المعاناة عن الشعب السوري”.
توالي الحدثين يشير إلى التوجه الحقيقي للفاتيكان، فما لا يقوله البابا أو وثائق الفاتيكان الرسمية المتعلقة بالشأن السوري تُرك قوله لرؤساء الكنائس الذين عبّروا عن اعتزازهم الصريح بما سمّوه “انتصار سوريا، قيادة وجيشاً وشعباً، على جميع أشكال الإرهاب الذي يهدف إلى إضعافها وتجزئتها، مؤكدين على تكاتف الشعب المخلص والتفافه حول دولته ومؤسساتها الشرعية”. غني عن القول أن هذه الصيغة لم تكن لتصدر بحضور السفير البابوي لولا موافقة الفاتيكان عليها، والسفير البابوي ماريو زيناري هو المكلف بمتابعة الشأن السوري، وقد أُبقي في منصبه رغم سحب السفراء الغربيين احتجاجاً على وحشية الأسد، وتم ترفيعه إلى رتبة كاردينال مع إبقائه في دمشق فيما يبدو نوعاً من الثناء على أدائه.
عبر الاعتزاز بانتصارات بشار تحت رعاية بابوية، نستطيع القول أن الكنيسة تتفوق على نفسها بعد ثمانية عقود من الحرب العالمية الثانية، فحينئذ لم تعلن الكنيسة موقفاً سياسياً صريحاً مناهضاً للنازية والفاشية، وتعاطت مع إبادة اليهود والغجر بوصفها مأساة إنسانية، ما ترك الباب موارباً أمام أنصارها للإشادة بدورها الإنساني، وأمام منتقديها الذين لا تنقصهم الحجج على دورها السلبي. الاعتزاز بانتصارات النازي الحالي الصغير يدلل على عدم تعلم درس النازية القديمة، وعلى أن الفاتيكان يتراجع في حساسيته الإنسانية حتى عما كان حاله أيام البابا بيونس الثاني عشر المتهم بالصمت على المحرقة. الموقف الحالي يصعب احتسابه على سبيل الأنانية المفرطة، أي تلك التي تضحي بمئات آلاف السوريين من أجل مصلحة المسيحيين منهم، إلا بالتواطؤ على كذبة النظر إلى بشار الأسد كحامٍ للأقليات، وعلى أن أي بديل للأسدية سيكون على حسابها.
في الوقائع والأرقام التقريبية، كانت نسبة المسيحيين في سوريا عام 1970، أي مع مستهل حكم الأسد، حوالي 10% من نسبة السكان وفق الأرقام التي كانت موجودة في الكتب المدرسية آنذاك. عام 1985 ستكون النسبة قد انخفضت إلى 4.5% وفق تقديرات أمريكية، ومردّ الانخفاض ليس تراجع نسبة الولادات بالمقارنة مع الطوائف الأخرى، وإنما بسبب تزايد معدلات الهجرة لأسباب متنوعة، لتنخفض النسبة بشكل متوالي بعد ذلك التاريخ أيضاً من دون توفر إحصائيات دقيقة عن عدد المسيحيين المقيمين في سوريا.
ثمة خبر مفرح لقصيري النظر يتداوله بعض المسيحيين، فنسبتهم عاودت الارتفاع في السنوات الأخيرة، بسبب مقتل حوالي مليون وتهجير حوالي سبعة ملايين من باقي السوريين. إلا أن بيان رؤساء الكنائس، بعد تحدثه عن مآس ألمت بشعوب المنطقة من دون تحديد مرتكبيها، ينص على التهجير الذي تعرض له المسيحيون على نحو خاص متغاضياً عن الانتماء المذهبي للنسبة الساحقة من الملايين السبعة. لتأتي دعوة البيان المسيحيين إلى “التشبث بأرض الآباء والأجداد” على محمل شديد الطائفية والعنصرية، فلا هي موجهة لعموم السوريين، ولا فيها أي ذكر لعودة المهجّرين جراء انتصارات قيادتهم وجيشهم اللذين يعتزان بهما.
طيلة عهد الأسدين لم يحصل مسيحيو سوريا، أسوة بغيرهم من السوريين، على حقوق المواطنة الكريمة، ليأتي بيان رؤساء الكنائس الأخير مشيداً بهم “أنموذجاً للمواطنة الفاعلة التي تدرك جيداً واجباتها وحقوقها”. الميزات التي حصل عليها المسيحيون، إذا جاز تسميتها هكذا، كانت عبر ارتباط رؤساء الكنائس بقصر الرئاسة، وتالياً عبر اختيار رؤساء للكنيسة مقربين منه. ذلك لا يقتصر على المسيحيين، إذ نرى شبيهاً له بالعلاقة مع رؤساء عشائر كبرى، وأيضاً ما هو معروف لجهة سيطرة السلطة على مشيخات العقل الدرزية، وإفراغ المذهب العلوي من مشايخه التقليديين لصالح مشايخ جدد لا يندر بينهم وجود متقاعدين عن العمل في أجهزة المخابرات.
بيان رؤساء الكنائس، برعاية بابوية بعد زيارة مبعوث البابا، من الممكن فهمه ضمن إطار أوسع لتعويم بشار الأسد، وهذا دور قذر يُفترض بالكنيسة التي لم تقطع مع سلطة الأسد بزعم بعدها عن السياسة ألا تنخرط في سياسة تعويمه. الأسوأ أن هذا الدور يضع في الواجهة مسيحيي سوريا، ولا يفصل بينهم وبين سياسة الفاتيكان حيث يتوجب الفصل ومراعاة الحساسية الخاصة لموقعهم. إن الزهو بالانتصارات الحالية للأسد فيه قصر نظر أيضاً، من حيث عدم مراعاة علاقة المسيحيين بعموم السوريين الآن ومستقبلاً.
كما هو معلوم كانت النسبة الساحقة من المسيحيين تتراوح ميولها منذ انطلاق الثورة بين الموالاة أو الصمت، وبقي المسيحيون هامشيين ضمن البعد الطائفي للصراع حينما طغى الصراع الشيعي-السني. تلك الوضعية خلقت قدراً أقل من الحساسيات المتبادلة، ولم تضع المسيحيين في مركز الصراع، بل كان ممكناً للكثيرين النظر إليهم كفئة هامشية وصغيرة تريد الحفاظ على نفسها من دون التورط في صراع دموي لا يُستبعد أن تُسحق بين جانبيه.
بعيداً عن الاعتبارات الأخلاقية التي تقتضي رفض الإبادة صراحة، كان وارداً قبل بيان رؤساء الكنائس إيجاد أعذار لهم ولما يمثّلونه، إلا أنهم تبرعوا برفض تلك الأعذار، وبدل التصرف كسوريين تصرفوا على أنهم مسيحيو بشار. ولو شئنا قراءة البيان بمدلولاته الواقعية لوجب الخوف من تلك الدعوة “إلى التشبث بأرض الآباء والأجداد”، لأنها لا تستقيم مع الاصطفاف إلى جانب المجرم حتى إذا صدّقنا فرضية كونه حامياً الأقليات من دون تصديق وهم بقائه إلى الأبد. إن أي عاقل لا بد أن يرى في البيان توريطاً للمسيحيين في صراع قابل للتجدد، ولا بد أن يرى فيه إضافة طائفية مقيتة في وضع يحتاج إطفاؤه إلى التخفيض من منسوبها.
بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية راحت الكنيسة تبرز بعض المساعدات الإنسانية التي قدّمتها لبعض المستهدفين بالإبادة، وكأن تلك المساعدات تعويض عن موقف سياسي وأخلاقي لم تتخذه ضد النازية. أيضاً في سوريا، لا نستطيع إنكار جهود إغاثية لبعض الكنائس، أو قيام بعضها بدور وسيط تتلقى من خلاله أموال مساعدات غربية لن يسمح بها الأسد في مناطق سيطرته. لكن تقديم مساعدة غذائية أو دوائية مع الولاء للقاتل لا يشفع لصاحبها، خاصة عندما ينتقل الولاء من القلب إلى اللسان.
في قول رائع.. بئس العالم في دار الحاكم لا بارك الله بكل رجل دين ومن أي ديانة ان يكون منافقا مطبلا ومزمار… الدين لله والوطن للجميع اخرجوا السياسة من قلوب رجال الدين. والدنيا بالف خير