لقد كان للفساد المُنظّم في سورية، مكانةً ديناميكيّة هامة داخل بُنية مؤسّسات الحكومة، وفي آليّة مُعالجة المُشكلات والأزمات الّتي كانت ولا تزال تعصف بالمجتمع وأفراده على حدّ سواء، وتعدّدت أوجه الفساد بشكل متصاعد، من سرقات المال العام وخطف المشاريع الاقتصادية لجيوب أبناء العائلة الحاكمة، وصولاً إلى التّحكم بالميول العام حول مفاهيم التّربية والأخلاق في الحياة العمليّة.
في المدارس والجامعات والبيوت والطرقات، كان بإمكان السّوري النظر لأيّة مشكلة تواجهه من ذهنيّة حلّها عبر “الدّفع” عادة، بحيث تصله إشارة وتلميحات مُسبّب المشكلة ابن المنظومات الإدارية أو حتّى على مستوى العلاقة مع الآخرين، بأنّه يجب أن يدفع فوق ما هو مطلوب، الأمر الّذي جعل مجتمعاً بأكمله شبه فاقدٍ للأخلاق بالتعامل مع مصاعب الحياة ومواجهتها والنظر إليها وفق عبارة “الدراهم مراهم” وهنا قد تأخذ المراهم شكل المال أو تقديم أي مقابل إنساني أو معنوي أو حتّى وطني!
إنّ معالجة تلك الاختراقات الأخلاقيّة الّتي يعاني منها المجتمع السّوري أينما تمثّل حضوره داخل البلاد أو خارجها، هي محاولة شبه مستحيلة في ظل طمس الحقائق حول غياب وعي الداخل السّوري الّذي تحكمه رغبات البقاء بعيداً عن السّياسية والمطالبة الجادة بالحقوق، فما كان من مئات آلاف المقهورين إلا النهوض بالصراخ رفضاً للفساد، وهو أكثر طرق التعبير سلميّة وإنسانيّة، ولكن بالعودة إلى الأزمة الفكريّة في اعتبار الصمت أحد أشكال التّجلي الأخلاقي، نستطيع أن نسمّي تلك الحالة من الفهم ذو الإعاقة المبتذلة: خوفاً! ويستكين هذا الأخير خلف جملة من العادات والتقاليد والرعب، كان أبرزها -طيلة الصراع في سورية على السلطة وحتّى قبل الثورة- مكانة الدّين وما آلت إليه أحواله ووظيفته الإنسانيّة وتأثيره الاجتماعيّ ودوره السّياسي “الرديء” في سورية حسب ما نتابع اليوم.
مثلاً يتصارع البعض على “قانون” يخص وزارة “للدين” ويدّعي أنّه مَنح الصلاحيّات للموظفين في تلك المؤسسات التابعة لسلطة النظام، من أجل التحكم بالمجتمع، فتشاء الصُدف أن يظنّ بعض السوريين من الداخل والخارج، حسب مبدأ “الخوف” إياه، أنّه من المستحيل تحويل سورية إلى دولة دينيّة! ولكن في الواقع، برأيي أنّ سورية هي أساساً مرسومة ومقسّمة في مجتمعاتها المتعددة وحركاتها الباطنية الكثيرة وفق أسس مذاهب دينيّة وطائفيّة بلا أدنى شك، لو نظرنا في قانون الأحوال المدنية وقانون الأحوال الشخصية والدستور السوري، فالسند القانوني لها ما “شرّعه” أهل الدين!
ناهيك أن توزع السكان والمرجعية العقائدية الّتي تم توزيع مساكنهم وحياتهم وعملهم، وفقها، تخضع إلى توازنات واضحة في الحياة السّورية، وربّما القبضة العسكريّة للنظام استطاعت أن تثبّت تلك التوازنات إلى أن تحولت إلى خَللٍ سياسي واجتماعي واضح في بُنية المجتمع أنجب احتجاجات شعبيّة متأخرة للغاية، انحرفت بدورها إلى خطاب ديني كارثيّ، كما يمكن النظر إلى تكوين جيش النظام، وثقله الأمنيّ ومعتقدات مكوناته البشريّة، إذ سوف تشهد بتلك الطائفية والعقائديّة الدينية المستثمرة سياسياً على نحو رهيب.
يمكن إضافة أنه حتى لو التزم المجتمع بالأوامر العسكرية تلك، فإنّه سوف يبقى فيما بينه وبعيداً عن عيون الرقيب، متسوّلاً لحرية ما، بثمن بخس، قد تأخذ شكل الانحلال السياسي والتسطيح الإنساني تحت مُسمّيات التمرد، وهنا نتذكر على سبيل المثال فساد الحواجز العسكرية للنظام وللمعارضة بالتواطؤ الخطير مع تحرّك تُجّار السّلاح وتنقّل أمراء الحرب بين المناطق وعبر الحدود مقابل “الدفع”.
إذاً نحن لم نكن يوماً بلداً علمانياً، كلّ ما في الأمر أن الحياة كانت عسكريّة بكلّ ظلالها الاجتماعية والعملية والثقافية والاقتصادية والتعليمية، واستغلال أيّة فرصة للنيل من تلك “الحالة العسكريّة” أنتجت أسباباً قاتلة لتفسّخ المجتمع وتردّيه الفكري والإنساني وتعدد أقطاب الفساد فيه.
كان ولا يزال على أيّ تحرك سياسي أو تقدّم في البلاد أن يأخذ موافقة العسكر، ما كنّا نحتاجه، ربّما، هو ثورة أخلاق! ثم السعي إلى بلد مدنيّة، تفصل الدّين عن الدولة وفق نظم ديمقراطيّة، وكلّ ما يمر إلى قضيتنا خارج هذا التّوجه، أعتقد أنه محض استنساخ لاستبداد كان قائماً، باستبداد أشدّ تطرّفاً وعنفاً ويلحقه ويل عشرات المناطق المقسومة بين الدول التي تعبث بمصير أرضنا وتستثمر بآلام الشعب على أنّها دول “حليفة”!
يمكن وضع الدّين جانباً كمبدأ أخلاقي تربوي لكلّ من يود الالتزام به من حرية اعتقاد أو عدمه، بينما يتم ترك شؤون العمل السّياسي لهيئات مدنيّة لا تخضع للعسكر أو لأيّ حزب واحد أو قوميّة ما أو وتفرّق بين أي انتماء عرقي أو طائفي، دولة مدنيّة تُكتب ملامحها وفق تعدديّة سياسية حرّة وقانونيّة تنطلق من احترام كرامة الفرد وضمان حقوقه وإتمام واجباته وفق تربية أخلاقيّة حقّة.
عذراً التعليقات مغلقة