خالد أبو صلاح يكتب: الحرب الروسية الأوكرانية وإرهاصات التسوية السورية
أعادت الحرب الروسية على أوكرانيا ترتيب الملفات الإقليمية والدولية، والاصطفافات السياسية، فغيّرت تحالفات راسخة، وبدلتها بين ليلة وضحاها؛ فالمملكة العربية السعودية باتت أقرب من أي يوم إلى روسيا، وأبعد عن الولايات المتحدة الأميركية، وإيران وروسيا أصبحتا على طرفي نقيض؛ بعد سعي الأخيرة لتعطيل الاتفاق النووي، وسعي إيران لاستغلال اللحظة الراهنة لإنجاز الاتفاق ولو على حساب روسيا. هذه الترتيبات الجديدة، والتي ما زالت في مراحلها الأولى، تلوّح بإرهاصات قد تفضي إلى تسوية محتملة ساحتها سوريا.
غابت الإرادة الدولية لحل الصراع في سوريا، وعلى مدار أكثر من عقد، ازدادت القضية السورية تعقيدا على المستويات الثلاث، المحلية، والإقليمية، والدولية. وتحوّلت سوريا إلى ساحة حرب بالوكالة، لهذه الساحة قواعد اشتباك؛ لحصر الصراع ضمن حدودها فقط، ريثما يتم التوافق على تقاسم الكعكة السورية، أو إنجاز تسوية لا يخسر فيها طرف على حساب بقية الأطراف. فساندت روسيا وإيران النظام، وتدخلت تركيا عبر عدة عمليات عسكرية إلى جانب المعارضة، وأصبحت الراعي الوحيد والحصري لـ “ممثليها الرسميين”.
وتراجع نفوذ دول الخليج، وألقت الولايات المتحدة بعض ثقلها في شمال شرقي سوريا. ومنع تناقض المصالح بين هذه الدول مجتمعة إمكانية إنجاز أي تسوية حقيقية، رغم عدة محاولات سواء في الإطار الدولي في جنيف بنسختيه واحد واثنين، والقرار 2254، وسلال ديمستورا الأربعة التي فرغت من كل ثمار سوى بعض الوعود في سلة الدستور المتعثرة، أو عبر مسار أستانا الذي أسست له كل من موسكو وأنقرة وطهران. إلا أن هذه الأطراف جميعها على اختلاف مصالحها، بما فيها الولايات المتحدة متفقة على إدارة الصراع وإبقائه ضمن حدود السيطرة، والحفاظ على نظام الأسد، خوفًا من انهيار مفاجئ قد “يغرق المنطقة بـ الفوضى”.
في ظل الصراع المحتدم مع روسيا في أوكرانيا، يسعى الغرب لإنجاز الاتفاق النووي مع طهران، لسد العجز في مصادر توريد الطاقة، في حين تعمل روسيا على تعطيل هذا الاتفاق، وتستغله إيران لتحسين شروط مفاوضاتها، وهذا خلاف في المنحى الاستراتيجي بين أهم دولتين منخرطتين في الصراع السوري.
بينما يبرز موقف خليجي بقيادة سعودية أصبح أقرب إلى موسكو، منه إلى واشنطن، لما سيحمله الاتفاق النووي من تداعيات على المنطقة العربية والخليجية، وتأثيره على أمن تلك الدول. أمّا تركيا فتقفُ موقفًا معتدلًا من الحرب، في محاولة لتجنب آثارها وحصد بعض ثمارها. تزامن مع هذه المواقف انفتاح في العلاقات التركية السعودية، وسبقها انفتاح مع الإمارات، وآخر يجري التحضير له مع مصر، لا سيما بعد أن عينت أنقرة سفيرًا لها في القاهرة بعد انقطاع دام تسع سنوات.
في المنحى العام، لا تريد الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون أي تصعيد في سوريا، يدفعُ إلى توسيع رقعة المواجهة مع روسيا إلى خارج أوكرانيا، حتى لا تمنح روسيا فرصة توسيع نطاق الحرب، وتغيير قواعد الاشتباك الحالية، لا سيما بعد الفشل الذريع للعملية العسكرية والخسائر الفادحة التي منيت بها موسكو في الوحل الأوكراني. وكذلك الأمر لا مصلحة حاليًا عند أي من أطراف الصراع السوري الإقليميين والدوليين للتصعيد.
في الأثناء، تعمل الماكينة الإعلامية الغربية على شيطنة روسيا في الأوساط الدولية، بسبب المجازر التي ترتكبها في أوكرانيا، ومع هذه الحملة الكبيرة ستحتاج روسيا في القريب العاجل، وبعد أن تضع حرب أوكرانيا أوزارها، إلى تغيير هذه الصورة الوحشية عنها، وفي الوقت نفسه تعويض الخسائر الاقتصادية الكبيرة في ظل العقوبات الدولية غير المسبوقة عليها.
تتقاطع مصالح روسيا السياسية والاقتصادية مع المملكة العربية السعودية، في ملفين أساسيين، الأول؛ الإشكالية مع الولايات المتحدة، والآخر؛ التحسب للموقف الإيراني. ستسعى موسكو لكسب ودّ المملكة لتعويض بعض خسائرها الاقتصادية، وفي الوقت ذاته، ستسعى أن تدفع طهران ثمنا لما تراه روسيا طعنة في الظهر، على حسابها. أمّا السعودية فترى أن الولايات المتحدة تسعى لإنجاز الاتفاق النووي على حساب مصالح دول الخليج، وهو ما تعده خطرًا على أمنها القومي بعد إطلاق يد إيران في المنطقة كما حصل بعد الاتفاق النووي عام 2015. وتجد في الشرخ الحاصل في العلاقات بين روسيا وإيران فرصة لتوسيع هذه الفجوة، وبناء حلف قادر على مواجهتا بعد إنجاز الاتفاق النووي.
أمّا تركيا، فهي وإن كانت في أحسن أحوالها السياسية، لا سيما بعد أن تحوّلت إلى وجهة دوليّة لتبريد النزاعات، ولعب دور الوساطة فيها، إلا أنها ليست في أحسن أحوالها الاقتصادية؛ فموجة الغلاء العالمية، مع التضخم الحاصل في الاقتصاد، وقرب موعد الانتخابات (عام فقط)، دفعها إلى تغيير بعض مقارباتها السياسية، ومنها ما حصل مع بعض دول الخليج ومصر. وسوريا هي البوابة البرية لبضائعها، والسوريون المقيمون على أراضيها ورقة انتخابية كانت وما زالت تستغلها المعارضة التركية بشكل أساسي والحكومة بدرجات متفاوتة.
خروج الإيرانيين من سوريا، كان مطلبًا دوليًا، وإقليميًا، وعثرة في حصول أي توافق بين القوى المختلفة المنخرطة في الصراع، ولكن لم يسمح أي ظرف سياسي سابق، لإمكانية حصول هذا الخيار، فالتقارب الروسي الإيراني القديم كان حاجة لكليهما، فالميليشيات الإيرانية هي القوة البرية في العمليات الميدانية في سوريا، وروسيا كانت تقدم الدعم الجوي لها. وإيران كانت وما زالت جزءاً من الثلاثي الضامن لمفاوضات أستانا. ودول الخليج سحبت يدها من الملف السوري بعد الاستنزاف في حرب اليمن والأزمة الخليجية. وتراجعت أهمية الملف السوري في واشنطن بعد القضاء على تنظيم داعش. ولم تتوفر ظروف طارئة تستدعي أي طرف أن يقوم بأي مغامرة لإنجاز تسوية في سوريا، فكان الملف السوري على رفوف المقايضات الباردة.
سخّنت الحرب الروسية على أوكرانيا الملف السوري، وها هي تُعيد إحياءه على طاولة المفاوضات الخلفية، فتخطب تركيا ودّ دول الخليج ومصر، وتجري تغييرات جوهرية في ائتلاف المعارضة وتجعله أكثر “تجانسًا” وطواعية وأقل حضورًا للإسلاميين. وتنشر صحيفة حرييت التركية نقلًا عن مصادر حكومية بأن مناقشات تدور في أنقرة بهدف تهيئة مشروع لإعادة العلاقات مع النظام السوري.
وتحتاج دول الخليج إلى توجيه صفعة لإيران عبر البوابة السورية، بعد إنجاز الاتفاق النووي، ولدى بعض دول الخليج ومصر أبواب مفتوحة مع النظام السوري، والتقارب بينها وبين تركيا المحتاجة إلى ترميم اقتصادها والخلاص من عبء الورقة السورية في انتخاباتها. وتقاطع هذه المصالح مع مصالح روسيا، التي ستغسل وحشيتها في أوكرانيا وتؤكد أنها “صانعة سلام” وليس مجرد آلة حرب وموت، بإنجاز تسوية في سوريا، وتعوّض خسائر الحرب والعقوبات الاقتصادية ببعض المشاريع في سوريا وروسيا، عبر الاستثمارات المدعومة خليجيًا.
أمّا الولايات المتحدّة فليس من مصلحتها تعطيل مثل هذه التسوية المحتملة، فخروج الإيرانيين من سوريا مصلحة إسرائيلية، والأخيرة صاحبة نفوذ واسع في واشنطن، والدول العربية تنسق معها تحركاتها ضد إيران في المنطقة. أمّا النظام السوري فما زال يملك معظم مفاتيح الأمن الداخلي، ورغم تسلّط الإيرانيين، إلا أنه لن يجد فرصة ذهبية أخرى تعيده إلى الحظيرة العربية بمباركة إقليمية ودولية، وتنقذه من الواقع الاقتصادي المنهار، وتساعده في الوقت نفسه على التخلص من إيران التي يخشى أن يلقى مصيرًا على يدها كمصير زميله علي عبد الله الصالح في اليمن.
أمّا السوريون فلا بواكي لهم، وأصبح الائتلاف الذي يفترض به أن يمثلهم، أقرب من أي وقت آخر، إلى التوقيع على جثة ثورتهم.
كل هذه التقاطعات تشير إلى إرهاصات قد تفضي إلى التعجيل بتسوية في سوريا، تحدد ملامحها تطورات الحرب الروسية الأوكرانية ومآلاتها، ومسار مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران.
عذراً التعليقات مغلقة