تبدو مقولة أن ما ينقص سوريا ليس دستوراً مقولة صائبة، وهي جواب دقيق على خطوة الأمم المتحدة تشكيل لجنة لصياغة هذا الدستور، ذاك أن ما جرى في السنوات التسع الأخيرة في هذا البلد لم يكن ناجماً عن خلل في الدستور، ناهيك عن أن صياغة أفضل دستور، والتوافق عليه لن يكبح جموح النظام إلى القتل المتواصل، ولن يحد من انغماسه في مزيد من الدماء السورية ومن المذبحة المتواصلة منذ العام ٢٠١١.
لكن في مقابل هذه الحقيقة، ثمة شيء ما حصل في الأمم المتحدة لا بد من التعامل معه. اختراق طفيف في جدار الاستعصاء السوري. لجنة فُرض على النظام قبول ممثلين عن المعارضة فيها. اختراق ليس بحجم المأساة، ولا يرقى إلى أن يصبح طموحاً وأفقاً لإحداث تغيير يعيد الاعتبار لموقع الضحية، ولا يشكل بداية مسارٍ لمحاسبة المجرم.
على كل من يقترح رفض قبول عضوية لجنة صياغة الدستور أن يقدم خطة لمسارٍ بديل. يصح القول في هذه الحال أن الخطة البديلة هي إعلان الانسحاب من أي مسارٍ سياسي وعسكري، والقبول السلبي بنتائج الحرب، ووضع العالم أمام مسؤولياته حيال التعايش مع نظام من هذه الطبيعة. ثم العيش بصمت، وتخزين وقائع الأعوام التسع في مكان من الذاكرة، بانتظار موعد آخر.
لا يبدو أن هذا البديل واقعياً، ذاك أن النظام لن يقبل بأن يقايض صمت السوريين بعودتهم رعايا في دولة ما قبل الثورة. فهو يدرك أن هذا لم يعد ممكناً حتى لو قبل به ضحاياه! لم يعد ممكناً ليس فقط لأن العلاقة التي كانت تربطه بالسوريين تغيرت بعد نحو ٥٠٠ ألف قتيل وملايين النازحين وعشرات المدن المدمرة، بل أيضاً لأن بنية النظام تغيرت في هذه السنوات، وما أشار إليه بشار الأسد لجهة “الانسجام الاجتماعي” الناجم عن الترانسفير، ستعيقه عودة صامتة للنازحين. النظام اليوم أضعف من أن يهضم ملايين العائدين، ولن يقوى على الصمود من دون عمل دؤوب لآلة القتل.
لكن، ومرة أخرى، في إعلان الأمم المتحدة اختراق طفيف قد لا يكون من الحكمة رفضه. ففي مقابل الإكراه الذي مارسه قرار تشكيل اللجنة على المعارضة، مارس إكراهاً موازياً على النظام أيضاً. انتزع منه قبولا بشراكة لم يألف القبول بها سابقا. ثم أن اللجنة المشار إليها قد تكون مسرحاً لكي يضع السوريون فيه مأساتهم التي لا مسرح سياسياً لها اليوم. الأمل ليس كبيراً، لكن اللجنة هي المتاح الوحيد في الوقت الراهن. العالم كله خرج من المأساة السورية، ولم يعد أمامنا سوى أن نتعامل بما تيسر من احتمالات.
الكلام عن إعادة تأهيل النظام ليس واقعياً. لن يتمكن نظام من هذا النوع من الصمود، ليس بسبب جرائمه وحسب، إنما أيضاً بسبب وقوعه في منطقة حسابات غير ثابتة. داعِمْيه (روسيا وايران) في مواقع متغيرة وخاضعة لحسابات تتعداه. بقاؤه ليس شرطاً دائماً، وهو من الضعف إلى حدٍ يسهل معه أن يكون ثمن تسوية ما. وهو لن يتمكن من العيش من دونهما.
المشاركة في لجنة صياغة الدستور ليست انخراطا في عملية سياسية، وليست مفاوضة أعقبت حرب. هي أقل من ذلك بكثير، لكنها مكان لإعادة طرح المأساة من مكان مختلف. فالمعارضة بأشكالها السياسية والعسكرية منيت بهزائم جلية ولم يعد ممكناً التعويل على دور لها في صياغة مستقبل مختلف لسوريا. وأمام هذه الحقيقة على المرء أن يختار بين إعلان الهزيمة والقبول بنتائجها، وبين انتظار فرص غير مغرية لكنها متاحة. وعليه أن يفكر أن المأزق يشمل خصومه أيضاً، وهذا قد يوسع كوة الاختراق الذي مثله قرار الأمم المتحدة الأخير.
المشاركة في اللجنة ليست خياراً أخلاقياً صائباً، وليست فرصة كبيرة للمشاركة في صياغة مستقبل سوريا. هي فرصة تصويبية ربما لإداء المعارضة، وعلى ضفافها يمكن أن تتشكل أروقة لإعادة الاعتبار لقضايا مثل عودة اللاجئيين، وقضية المعتقلين والمختفين، وربما فرصة لوضع العالم أمام مسؤولياته حيال هذه القضايا، طالما أن اللجنة ستعمل تحت أنظاره.
عذراً التعليقات مغلقة