تهريب أبطال دوستويفسكي من إدلب

مصطفى تاج الدين الموسى14 مارس 2019آخر تحديث :

تهريب أبطال دوستويفسكي من إدلب- مقال قصصي للأديب مصطفى تاج الدين الموسى

لكلِّ سوري هرب من سوريا خلال سنوات الحرب حكايته الخاصة به، وله خيالاته الخاصة به أيضاً، وأنا من أولئك الذين لهم حكايتهم الخاصة، وبسبب هول الكارثة ما عدتُ أستطيع التمييز بين ما هو خيالي، وبين ما هو واقعي.

ولكن، قبل أن تقرأ حكايتي يا عزيزي القارئ، أودُ أن أسألك، هل أنت مؤمن؟ ستجيب بـ نعم، إذاً أتمنى ألا تموت في سبيل إنقاذي، أنا الكافر.

ثلاثة مؤمنين بالله ينقذون شاباً غير مؤمن

للأسف الشديد، أصدقائي يتهمونني بأنني غير مؤمن منذ سنوات، وهذه الاتهامات على ما أعتقد غير صحيحة، أنا لا أجيد ممارسة أيّ طقوس دينية، نشأتُ في بيئة حيادية دينياً منذ طفولتي، فلم أتعلم ممارسة طقوس معينة، وهذا كل ما في الأمر ببساطة.

صحيح إنه ليس لديّ قناعات الملحدين، ولكن، ليس لدي سلوكيات وطقوس المؤمنين. هكذا عشتُ حياتي، مثل ناي لا يعرف أنه ناي، يلتقطه مؤمن فيعزف من خلاله أحزانه، ثم يلتقطه غير مؤمن ليعزف فيه أحزانه؛ ناي فشل في إنقاذ أمه، ويبدو أن هذا من عادات النايات.

كلهم كانوا حزانى، والمدينة بأسرها كانت حزينة وقد أتعبتها الحرب، هربتُ منها في نيسان 2014 بعد أن ساعدني ثلاثة مؤمنين من طوائف وأديان مختلفة، لا أعرفهم جيداً، ولا يعرفون بعضهم بعضاً؛ كانوا من معارف أبي قبل وفاته في 2012، استعنتُ بهم لأنجو من هذه الحرب.

العنصر في المخابرات الجوية، جابر، من الطائفة العلوية، طرطوسي. وبحكم عمله كان يتردد يومياً على المؤسسة الحكومية التي تعمل فيها أمي، وخلال تجواله بين مكاتب الموظفين، كان يمد رأسه من باب مكتب أمي ليسلم عليها ويمضي. يحب أبي كثيراً، مع أن أبي وبحكم أنه كاتب وشيوعي معارض منذ الثمانينات، لم يكن يحب عناصر الأمن، لكن ثمة صداقة جمعته بجابر بعد عدة تجارب شهدت على نزاهته، وحبه مساعدة الناس، بيته قريب من بيتنا. أمي وزوجة جابر لطالما تبادلتا الزيارات خلال سنوات.

في أحد الأيام دخل إلى مكتب أمي مسرعاً على غير عادته وأغلق الباب خلفه، اقترب منها، وهمس لها محذراً: أخبري ابنك أن يخرج حالاً من المدينة، دعيه يذهب إلى الريف، لدي معلومات أن اسمه سوف يتم تعميمه على الحواجز، عليه أن يغادر صباح الغد.

غادر مكتب أمي مسرعاً، وكأنه قد أزاح عن صدره صخرة ثقيلة، عادت يومها أمي إلى البيت مسرعة قبل نهاية دوامها، وأخبرتني، ثم اتصلت بجابر وأعطتني هاتفها الجوال، قال لي وكأنه يحاول ألا يفهمه أحد غيري: سافر إلى بيت جدك في القرية، ولا تقلق، إن الله معنا.

شعرتُ أن يده اللامرئية حطتْ على كتفي وهزتني بشجاعة، وهو يردد لي على الهاتف: لا تقلق، إن الله معنا وسوف ينصرنا.

خلال ساعة ونصف كانت أمي قد أعدت لي حقيبة، ولكن لم نكن ننوي أن أبقى في البيت حتى الصباح، اتصلنا بصديق لأبي، مهندس مسيحي، مكتبه الهندسي في منتصف السوق، ويمكن أن أختبئ عنده حتى الصباح.

وقفتُ في غرفتي لألقي نظرة وداع على مكتبة تضم أكثر من سبعة آلاف كتاب، جمعها والدي منذ ما قبل ولادتي، كتاباً كتاباً، وكبرنا أنا وهي معاً.

توجهتُ إلى المكتب الهندسي من خلال شوارع بعيدة عن الحواجز، وجلستُ مع المهندس نتبادل أطراف الحديث والذكريات عن الراحل والدي، قرر أن يذهب إلى بيته بعد أن أخبرته أنني سوف أغادر صباحاً قبل مجيئه، ولن أعود إلى المدينة لأن وضعي خطير، التقطني من كتفي وهزني، وهو يردد بثقة مبتسماً: لا تقلق، إن الله معنا وسوف ينصرنا.

في تلك الليلة لم أنم، كنت أتبادل الاتصالات مع شيخ “سني” يتزعم أحد الفصائل المسلحة للمعارضة، على أطراف المدينة، هو من معارف أبي، تحدثت معه أمي، تعرف عمته، ثم اتصل بي هاتفياً، الأمن والجيش يسيطران على المدينة، أما فصائل المعارضة فتحاصر المدينة من جهاتها كلها، واستمر هذا الحال أكثر من ثلاث سنوات، منذ 2012 حتى  2015.

أخبرني أن لديهم سيارة تدخل كل صباح إلى إدلب، بالتواطؤ مع حواجز الجيش والأمن، تظل هذه السيارة تتجول ساعات قليلة في شوارع المدينة، تجمع فيها الطعام والأدوية وأشياء أخرى للمسلحين، ثم تخرج لتعود إليهم، أفهمني أنني سأخرج بها، ولن يطلب الأمن والجيش هويتي على الحواجز، لأن هذه السيارة وضعها خاص. شعرتُ بالاطمئنان ووافقت وأخبرته عنواني، تجولتُ طويلاً في المكتب تصفحتُ عدة كتب، إنها ليلتي الأخيرة في إدلب.

في الصباح، وصلت السيارة إلى عنواني، خرجتُ من المكتب وصعدتُ إليها مع حقيبتي، كانت السيارة مليئة بالأكياس، مشى السائق وأنا خلفه على أعصابي، ودعت شوارع إدلب شارعاً شارعاً، من شباك السيارة في ازدحام السوق، ودعتُ وجوه الناس على الأرصفة في سوق المدينة، لا أحد منهم انتبه لي فودعني.

لم أصدق أننا غادرنا آخر وأكبر حاجز للجيش والأجهزة الأمنية، لم يفتشنا أحد، ولم يسألونا عن هوياتنا، أحد الجنود أخذ ظرفاً فيه مبلغ من السائق، وأشار إليه أن يمر بسرعة، بعد الحاجز بمئة متر تقريباً قال لي السائق وهو يضحك، ويراقبني بالمرآة الأمامية للسيارة: أصبحنا في المحرر.. فتنفستُ الصعداء.

بعد ربع ساعة وصلنا إلى مزرعة فأسرع إلينا عددٌ من الشباب، يعلقون على أكتافهم بنادقهم، نزلتُ أمام باب المزرعة، طلب مني أحدهم أن أدخلها، كان الشيخ ينتظرني فيها، وحوله مسلحون كثر، رحب بي وجلسنا أمام مسبح نشرب الشاي معاً وندخن، سرعان ما اتضح لي أن لدى الشيخ معلومات جيدة عني، مثل دراستي في كلية الإعلام، وكتاباتي في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، وأبي الراحل والكتب التي ألفها، ومشاكله القديمة مع النظام.

قال لي: ما رأيك أن تعمل معنا؟ خلف هذه المزرعة يوجد بيت، خذه لك، نحن كل يوم نأتيك بصور المعارك والفيديوهات والمعلومات، وأنت قم بصياغتها وانشرها لتصل إلى الناس، لدينا إنترنت فضائي وأجهزة حديثة، وسوف نساعدك، ونوفر لك كل ما تحتاجه.

ــ أريد أن أذهب إلى تركيا، اختنقتُ من هذه البلاد، سوف أعود إليكم عندما تتحسن أحوالي.

همستُ له، فالتقط كتفي وهزني، وأنا أمعن نظري في ملامح وجهه الطيب، همس لي: لا تقلق، إن الله معنا وسوف ينصرنا.

ذكرني بأولئك الأبطال الشعبيين في الروايات، الذين يطلعون من بين الناس، بثقافة متواضعة وضمير عالٍ، وبأخطاءٍ صغيرة غير مقصودة يقودون الناس عن نية طيبة.

نمتُ تلك الليلة في المزرعة التي يقيم فيها الشيخ، ومنها يدير معاركه وجنوده ويصل عددهم إلى عشرات، إلى جانب فصائل أخرى مجاورة لفصيله.

في صباح اليوم التالي، جلب الشيخ سيارة وأوصى أحد جنوده أن يأخذني إلى الحدود التركية، انطلقت بنا السيارة وعبرنا قرى الريف الشمالي لإدلب، وخلال ساعة ونصف تقريباً وصلنا إلى نهر العاصي، كان هنالك بشرٌ كثيرون يجتازون النهر إلى ضفته الثانية، حيث تركيا، وبمبلغٍ كبير حجزتُ في “الحلة” وهي قاربٌ صغير يتسع لعشرة ركاب تقريباً، وينقلهم خلال دقائق إلى الضفة الثانية، عندما وصلتُ إلى الضفة الثانية لم أشعر أنني قد صرتُ في تركيا، في بلدٍ آخر، كأن هذه الحدود مجرد أكاذيب.

صعدتُ مع الناس باصاً صغيراً، وأخذنا إلى بلدة الريحانية التركية الحدودية القريبة من النهر، نزلتُ في ساحة البلدة، سألتُ بعضهم، فأرشدوني إلى أوتيل قريب من هذه الساحة، ذهبتُ إليه وحجزتُ غرفة ثلاثة أيام، ثم اتصلتُ بأمي وأخبرتها أنني وصلتُ بأمان إلى تركيا. حياتي في تركيا بدأت في العشرين من نيسان من عام 2014.

خلال أيامي الأولى هنا، اتصلت بكل الذين سبقوني في الهرب إلى تركيا، التقيتُ بعضهم، ثم أوصلني أحدهم إلى أوتيل آخر، لأستقر فيه بشكلٍ دائم، أوتيل مجاور لبحيرة الريحانية، ويتقاضى إيجاراً متواضعاً، في قسم خاص بالطلاب والطالبات الأتراك.

في الأشهر التي تلت خروجي قتل أولئك الثلاثة، واحداً تلو الآخر، العلوي، عنصر الأمن، قتل في كمين داخل المدينة، المهندس المسيحي قتل بقذيفة طائشة سقطت ذات يوم على سوق المدينة، الشيخ السني، أحدهم دسّ له السم في الطعام، فمات مع زوجته، ويُقال إنها تصفيات داخلية ضمن فصيله.

المؤمنون الثلاثة الذين أنقذوا شاباً غير مؤمن، لم يساعدهم الله، وإنما ساعدني أنا، غير المؤمن! هذه الفكرة التي سوف تؤرقني طوال السنوات التالية لمقتلهم وخروجي من إدلب.

أيامي في الريحانية

غرفتي في الطابق الثاني من أوتيل “ميراي”، أمام الأوتيل توجد حديقة جميلة وواسعة أقامتها البلدية حول بحيرة جميلة، وعلى ضفاف البحيرة تتناثر المقاهي وبعض الحانات المتواضعة، تعرفتُ على تركي عجوز يدير حانة بسيطة تطل على البحيرة من الطرف المقابل للأوتيل، بدأتُ أتردد إلى حانته بشكلٍ متقطع، سرعان ما صرنا أصدقاء أنا وعجوز الحانة، يتحدث العربية بشكلٍ متواضع، صرتُ أجيءُ إلى حانته كل مساء، عدد زبائنه قليل جداً، لا يتجاوزون عدد أصابع الكف الواحدة، يسكب لهم كؤوس الخمر، ويُعد أطباقاً متواضعة، وثمّة أغنية تصدح بها آلة تسجيل قديمة في تلك الزاوية، أغنية تركية جميلة وحزينة، لم أفهمها، لكن عجوز الحانة يعيدها كلّ ليلة مرات عديدة، درجة أنني حفظتها دون أن أفهم معناها مع مرور الأيام.

في حياتي الجامعية في دمشق لم أكن أشرب كثيراً، كل أسبوع أو أسبوعين مرة، وفي المناسبات أيضاً، لكن ومنذ وصولي إلى الريحانية سوف أتحول إلى مدمن خمر في حانة هذا العجوز.

مرت السنة الأولى وبعض الأشهر من السنة الثانية بملل فظيع، كانت الفصائل قد سيطرت على إدلب في آذار 2015، لم أستطع الرجوع كما فعل البعض، خوفاً من المتطرفين، حاولتُ كثيراً أن أجلب أمي إلى الريحانية وأنقذها من الجحيم الإدلبي لكنني فشلت.

خطر في بالي أن أعيد قراءة روايات دوستويفسكي، شعرتُ أنني قد اشتقتُ إلى هذه الروايات، التي كنتُ قد قرأتها وأنا طالب في المرحلة الإعدادية منذ عشرين عاماً تقريباً، اتصلتُ بأمي في بيتنا في إدلب وأخبرتها عن مكان وجود هذه المجلدات في مكتبة البيت الكبيرة، واستطعتُ بعد سؤال الأصدقاء في الريحانية، أن أصل إلى رجل يسافر يومياً، بين إدلب في سوريا والريحانية في تركيا عبر الحدود، لوجود بطاقة تاجر معه، اسمه محمود، ملامحه فظة للغاية.

فهمتُ من الأصدقاء أنه يأتي بحمولات من إدلب للمعارف مقابل أجرة ما، اتصلتُ به ثمّ التقيته في حديقة البحيرة، على هاتفي الجوال شاهد صور المجلدات التي صورتها لي أمي، مطَّ شفتيه، قال لي: لا أستطيع أن أجلبها لك دفعة واحدة، لدي كثير من الحمولات، أستطيع أن أجلب لك كل أسبوع كتاب، ما رأيك؟

وافقته وأعطيته الأجرة التي طلبها، لكنه في المرات التالية سوف يأخذ مبالغ أقل لتهريب روايات دوستويفسكي، فبعد أول مرة وصل فيها إلى بيتنا لتعطيه أمي أول رواية لدويستوفسكي، اكتشفت أمي أن محمود الذي حدثتها عنه على الهاتف، الذي سوف يمر ببيتنا ليجلب لي الكتب، هو ذاته الموظف القديم في مؤسستها الحكومية.

الأبله

في نهاية أيلول 2015 جاء محمود من إدلب واتصل بي، التقينا عند البحيرة، شاهدتهم إلى جانبه، وعلى أكتافهم صرّر ملابسهم، مثل أيّ نازحين على عجل من الحرب، ليون، وآناستازيا، وبارفيون، وميشكين، أبطال رواية “الأبله” لدوستويفسكي.

ناولني محمود الرواية وحدثني بكلمات مقتضبة ممتعضاً عن معاناته بتهريب هذا الكتاب، وخوفه من أن ينتبه إليه المتطرفون على حواجزهم في إدلب وريفها، والمشكلات التي قد تسببها مشاهدتهم لهذا الكتاب معه.

أعطيته النقود وشكرته، ابتعدنا عنه ومشينا إلى غرفتي، ليون، وآناستازيا، وبارفيون، وميشكين وأنا. تجولوا طويلاً في غرفتي وأنا أتصفح أوراق هذه الطبعة القديمة التي اقتناها أبي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن أصدرتها دار “رادوغا” السوفيتية.

تمر الأيام ببطءٍ موحش، أستيقظ متأخراً لأقرأ في رواية “الأبله” حتى المساء، ثمَّ أنزل من غرفتي في أوتيل “ميراي” لأتمشى قليلاً حول البحيرة وأراقب الناس بصمت، أمشي بجانب البحيرة، أراقب ماءها، فتمشي في رأسي الأغنية التي أسمعها في حانة العجوز التركي، ولا أعرف ماذا تعني.

عندما خرجتُ من الحانة مخموراً بعد منتصف الليل، كانوا متحلقين حول بابها، وقد أعدوا لي كميناً محكماً، ليون، وآناستازيا، وبارفيون، وميشكين. رمقتهم بصمت، رمقوني بحقد، همسوا لي بأصوات تشي بكراهية غير طبيعية، رددوا معاً بلسان واحد: ثلاثة مؤمنين، كلٌ على طريقته، ماتوا في سبيل إنقاذ هذا الكافر.

أسرعتُ خائفاً إلى غرفتي وأنا أترنح، لأندسَّ متعباً في سريري تحت الأغطية، وأحشر رأسي تحت الوسادة. أربعتهم، حملوا سريري من زواياه الأربعة وراحوا يفتلون به في منتصف غرفتي، في العتمة، وهم يصرخون خلال نومي المضطرب: ثلاثة مؤمنين قُتلوا في سبيل إنقاذ هذا الكافر.

المراهق

في منتصف تشرين الأول اتصل محمود لنلتقي بعد ساعة قرب البحيرة، صافحته ببرود، وعلى يمينه شاهدتُ أركادي، وفيرسلوف، وليزا، ناولته النقود، ومشيتُ إلى غرفتي مع أركادي، وفيرسلوف، وليزا، أبطال رواية المقامر، وعلى أكتافهم صرّر ثيابهم، وهم يتنفسون الصعداء، بعد خروجهم سالمين من إدلب، مبتعدين عن قذائف النظام.

أنهيتُ رواية “المراهق” خلال أيام، في اليوم الأخير للقراءة ذهبتُ إلى الحانة متأخراً وشربتُ مع العجوز، ساعدني على النهوض بعد أن جهز نفسه لإغلاق حانته، مشيتُ بصعوبة إلى الباب، كانوا في انتظاري معاً، أركادي، وفيرسلوف، وليزا، رددوا على مسامعي بكراهية على باب الحانة بأصوات شاحبة: ثلاثة مؤمنين قُتلوا من سبيل إنقاذ هذا الكافر…

أسرعتُ مخموراً وأنا أتعثر بنفسي إلى غرفتي، رميتُ جسدي بتعب لا يحتمل على سريري، بينما أبطال رواية “المراهق” يدورون حول سريري في هذيان مؤلم، وهم يصرخون في عتمة غرفتي، وأنا نصف نائم: ثلاثة مؤمنين قُتلوا من سبيل إنقاذ هذا الكافر.

الإخوة كارمازوف

بجانب البحيرة في الأسبوع الأول من تشرين الثاني أعطاني محمود رواية الإخوة كارامازوف، ساعدتُ الأب فيودور على حمل صرّته، وكانت كبيرة وثقيلة، ثمَّ مشينا بصمت، أنا وهو، وديمتري، وإيفان، وإليوشا، وسميردياكوف، والعاهرة غروسشنكا. والراهب زوسيم..

حدثوني بكلمات تخنقها الغصات، عن القصف الفظيع الذي تتعرض له إدلب، وكيف نجا بيتنا مصادفة مرات عدة من القذائف، وكيف تساقطت الكتب والرفوف والشبابيك والأبواب، وكيف أعادتْ أمي ترتيب البيت كيفما اتفق.

بدأتُ قراءة “الإخوة كارامازوف” مع بداية الشتاء، وهذه الرواية تشبه شتاءً لا ينتهي. لكن، في الليالي الممطرة، وكلما خرجتُ من الحانة بعد منتصف الليل، كان الأب فيودور، وديمتري، وإيفان، وإليوشا، وسميردياكوف، والعاهرة غروسشنكا، والراهب زوسيم يطاردونني إلى غرفتي بجنون من لديه ثأر في ذمة الآخر.

ويدورون حول سريري في طقسٍ صوفي ليلي مريع، يفتك بمشاعري ويزيد من آلامي، تارة، وتارة يحملون السرير وأنا شبه نائم وشبه ميت عليه، ويدورون بي من دون تعب وكأنه نعشي، لتحاصرني الكوابيس وهم يزعقون بشكلٍ مؤلم لكل خلايا جسدي، بأصوات رتيبة وجافة: ثلاثة مؤمنين قُتلوا من سبيل إنقاذ هذا الكافر.

الجريمة والعقاب

راسيلنكوف، وسونيا، ورازميخين، وبروفيري، خلف محمود تماماً، وعلى أكتافهم صرّر ثيابهم، بيني وبينهم محمود، يناولني في منتصف كانون الأول رواية “الجريمة والعقاب” وينقل لي سلامات أمي، أودعه واصطحب النازحين الدوستوفيسكيين الجدد من إدلب إلى غرفتي، لأبدأ قراءة “الجريمة والعقاب”.

في حانة العجوز قال لي صاحبها: منذ سنتين تقريباً، وأنت تزور حانتي يا صاحبي، ولا مرة جئت بصديق، ألا يوجد لديك أصدقاء؟ الريحانية مليئة بالسوريين!

شرحتُ له بخجل أنني شخص غير اجتماعي منذ طفولتي، ولا أصدقاء لي في حياتي، قبل الحرب وبعدها، سوى أبطال الروايات، لا أعرف إن كان قد فهم كلامي بشكلٍ جيد، لكنه سكب لنفسه كأساً، وجلس إلى طاولتي لنشرب معاً حتى وقت متأخرٍ.

قال لي قبل أن أمضي، بتعاسة تناسب عمره الطويل: لا أصدقاء للمخمورين سوى الكأس! ترنحتُ وأنا أمشي إلى باب الحانة، وقد خمنتُ وجود كمين جديد.

من بابها حتى باب غرفتي، كاد رأسي المثقل بالخمر ينفجر تحت المطر، بسبب صراخهم حولي، صراخهم كان مثل عويل ذئاب جريحة، راسيلنكوف، وسونيا، ورازميخين، وبروفير؛ أبطال رواية “الجريمة والعقاب”.

بالنسبة إلى هذه الذئاب الجريحة، جريمتي كانت قتل عنصر الأمن العلوي، والمهندس المسيحي، والشيخ السني، وهذا الليل الممطر هو ساحة المحاكمة، وأبطال روايات دوستويفسكي هم عقوبتي.

ضجيجهم حول سريري لم ينته طوال ليلٍ من أرق وتعب، وصراخهم وهم يرددون فوق سريري بعويل بشع: ثلاثة مؤمنين ماتوا بسبب هذا الكافر.

الشياطين والمقامر

في الأيام الأخيرة من سنة 2015، صرتُ مقامراً قامر بروحه بأن هَرَّبَ من إدلب كل شياطين دوستويفسكي، ناوياً أن يحارب بها ملل النزوح إلى مكان آخر غير مكان الطفولة، فحاربته بجريمة جمعت ثلاثة مؤمنين، من أديان وطوائف مختلفة، لا يعرفون بعضهم بعضاً، قتلتهم الحرب في أوقات مختلفة، لم يلتقوا معاً في الواقع أبداً، لكنهم يلتقون في رأسي دائماً.

قبل رأس السنة بيوم جلب لي محمود روايتي “الشياطين” و”المقامر”، ونقل لي عن أمي إن كتب دوستويفسكي قد انتهت، فهذه كل رواياته في مكتبة بيتنا، شكرته ليمضي مستغرباً مني، كما هو حاله في كل لقاء أستلم منه رواية، مستغرباً نظراتي الضائعة حوله، وكأنني أرى ما لا يراه.

ألكسي، وبولين، من “المقامر”، وستيبان، وبربارا، ونيكولاي، من “الشياطين”، كانت صرّر ثياب نزوحهم من إدلب قليلة، أخذتهم كعادتي بصمت إلى غرفتي، وخلال الأسابيع الأولى من عام 2016 أنهيتُ كلاً من “المقامر” و”الشياطين” ولم أغير من عاداتي المسائية في المشي حول البحيرة، وتأمل البشر عن كثب، على الرغم من المطر، أو التردد على حانة العجوز التركي، ولم تتغير تلك الكمائن الدائمة والمزعجة لي وأنا مخمور، والليالي الكابوسية مع تلك الشخصيات الروائية.

خرجتُ من الحانة في منتصف الليل فشاهدتهم معاً، كان ألكسي، وبولين، وستيبان، وبربارا، وبيكولاي، ووجوههم قد اتخذت أشكالاً غريبة، متوحشة وهم يرددون بوحشية خلفي من الحانة حتى سريري: ثلاثة مؤمنين ماتوا بسبب هذا الكافر.

وجهاً لوجه مع كل ذئاب دوستويفسكي في ليلةٍ شتوية ماطرة

أخطأت حينما قمتُ بتهريب أبطال روايات دوستويفسكي من إدلب إلى الريحانية، صاروا كابوساً ليلياً لا يحتمل بالنسبة إلي، كائنات مزعجة تتهمني بجريمة لم اقترفها، أولئك المؤمنون على اختلاف أشكال الإيمان عندهم، القدر هو من اقترف الجريمة بحقهم، أنا لا علاقة لي.

رجعتُ مخموراً في تلك الليلة إلى غرفتي، ما إن دخلتها حتى حاصروا جسدي بأجسادهم التي أحاطت بي من جهاتي كلها، السخط والكراهية كانت تنقط من وجوههم، وكأن وجوههم غيوم سوداء تنهمر عليّ بمطر داكن، وكأنهم يريدون الانتقام مني والثأر لأولئك المؤمنين الثلاثة الذين قتلوا بعد إنقاذهم لي.

ليون، وآناستازيا، وبارفيون، وميشكين، وأركادي، وفيرسلوف، وليزا، والأب فيودور، وديمتري، وإيفان، وإليوشا، وسميردياكوف، والعاهرة غروسشنكا، والراهب زوسيم، وراسيلنكوف، وسونيا، ورازميخين، وبروفيري، وألكسي، وبولين، وستيبان، وبربارا، وبيكولاي؛ كل أفراد القبيلة الديستوفيسكية، كانوا يرددون بقسوة أمامي: ثلاثة مؤمنين قتلوا بعد أن أنقذوا كافراً.

صرخت بهم: يا حقراء، لقد أنقذتكم وهربتكم من إدلب إلى هنا، عليكم اللعنة لماذا تسببون لي كل هذا الألم؟

لم يرد علي أحد منهم، قاطعهم الحقير “راسيلنكوف” عندما أشار لهم بكفه أن يصمتوا فصمتوا، ثمَّ اتجه إلى طاولتي، وراح يقلب صوراً أخذتها معي عندما غادرت إدلب، صور ذكرياتي، من مراحل مختلفة من حياتي، في الطفولة، في المراهقة، في الجامعة، بين إدلب، ودمشق، وحمص، وحماه، واللاذقية، ولبنان.

يبدو أن صوري المتناثرة على طاولتي أزعجته كما انتبهت من ملامح وجهه، وهو يتأملها صورة تلو أخرى، ويفكر فيها.

استدار “راسيلنكوف” فجأةً، وصرخ في وجهي مثل محقق شرس:
ـــ هل هذه صورك؟
ـــ نعم.. إنها صوري، منذ أن كنتُ صغيراً، احتفظ بها دائماً، هل من مشكلة ما فيها؟

حك ذقنه محتاراً، ابتسم لي بخبث، يبدو أنه عثر في صوري على ما يدينني بخصوص أي جريمة في هذا الكون، تمتم بهدوءٍ مزعج:
ـــ عشرات الصور لك، في سنوات وسنوات وسنوات، كلها لك فقط! وحدك! لا يوجد لديك صورة واحدة مع أصدقاء أو حتى صديق، مع أقارب، مع العائلة، مع أو مع أو مع..
ـــ لم أنتبه إلى هذا الشيء..

اقترب راسيلنكوف مني، تأمل وجهي واللون الأحمر الدموي يتسلل إلى عينيه، سرعان ما همس لي بثقة، وهو يلوح أمامي، وأمام عيون أبطال دوستويفسكي ببعض صوري من بين أصابعه:
ـــ هل تعلم أن من يتفرج على صورك على مهل، سوف يتأكد أنك مجرم، وأنك أنت من ارتكب تلك الجرائم بحق أولئك المؤمنين الثلاثة، لا يوجد أصدقاء لك، شيء طبيعي، لا يوجد أصدقاء للجريمة، حتى قبل وقوعها. “وكررها مرات عدة وهو يقهقه” لا يوجد أصدقاء للجريمة، حتى قبل وقوعها.

أخذتُ عن طاولتي زجاجة خمر، رفعتها منهك القوى إلى فمي، لأتجرع ما تبقى فيها، بينما هم يرددون معاً، وكأنهم في جوقة للموتى في العالم الآخر: ثلاثة مؤمنين قتلوا بسبب هذا الكافر. هربتُ منهم وخرجتُ من غرفتي في تلك الليلة الماطرة وأنا أكاد أختنق منهم، لم أعد أحتملهم وأحتمل جنونهم، حياتي ليست رواية ليسرحوا ويمرحوا بصخبهم الداكن على صفحاتها.

رجعتُ إلى الحانة وكان عجوزها ما يزال فيها، جالساً وحده، فجلست إلى جانبه، وأنا أشاهدهم من النافذة، تحت ضوء القمر والمطر، أبطال روايات دوستويفسكي وهم يتناثرون على طول الشارع، من باب الحانة حتى البحيرة، وكأنهم في مظاهرة ليلية ضدي، يزعقون بصوت عالٍ: ثلاثة مؤمنين قتلوا بسبب هذا الكافر.

عجوز الحانة لم يستغرب كثيراً رجوعي، فهو معتاد منذ سنوات على السلوك الغريب للمخمورين، جلب لي كأساً فأشعلتُ سيجارتين له ولي.

بعد قليل جلس إلى جانبي شاب لا أعرفه، قال لي: من أين الأخ؟

ـــ لا أعرف، نسيت.

تفاجآ بكلامي، فسألته بلا مبالاة، من دون أن التفت إليه:

ــ من أين أنت؟

كانت الشمس تشرق في صباحها الشتوي هذا بخجل عندما أجابني.

ــ من إدلب.

أخذتُ نفساً عميقاً من سيجارتي، كان يرمقني مستغرباً وأنا لا التفتُ إليه، سألته:

ــ هل أنت مؤمن؟

ــ طبعاً.

أجابني فتمتمتُ له:

ــ احذر، قد تموت بسببي، أنا الكافر.

لا أعتقد أنه عاش صباحاً غامضاً مثل هذا الصباح في حياته كلها، بقايا الخمر في رأسي دفعتني فهمستُ لهذا الغريب بأسى:

ــ أتعلم.. لقد استطعتُ أن أُخرجَ أبطال روايات دويستوفسكي من إدلب، ولم أستطع أن أخرج أمي. يبدو أن الرحمة تعرف الطريق إلى أبطال الروايات، لكنها لا تعرف الطريق إلى سكان إدلب.

صمتُّ قليلاً لأعب من سيجارتي، ثم أردفتُ له بما يشبه اليقين:

ــ لو أن أهل إدلب من سكان الروايات لنجوا من هذه الحرب.

لم يفهم من كلامي شيئاً، نهضتُ متعباً، ومشيتُ إلى غرفتي.

استيقظوا واحداً تلو الآخر، أبطال دوستويفسكي، مشوا خلفي، وكأننا في جنازة، أشرقت الشمس علينا ونحن نقترب من غرفتي، كانوا يرددون معاً من خلفي بهمس واثق:

ــ ثلاثة مؤمنين قُتلوا في سبيل إنقاذ هذا الكافر، ثلاثة مؤمنين قُتلوا في سبيل إنقاذ هذا الكافر، ثلاثة مؤمنين قُتلوا في سبيل إنقاذ هذا الكافر.

مع خطواتي، رحتُ أغني تلك الأغنية التركية ـ أغنية عجوز الحانة، التي لا أعرف ماذا تعني، غنيتها لهذه الحياة التي لم أستطع أن أفهم معناها أيضاً.

ماذا لو انتهت هذه الحرب، ورجعتُ يوماً إلى إدلب، ماذا يمكن أن أفعل؟

سوف أغني لمن تبقى من المعارف على قيد الحياة، ونجوا مصادفة من الموت، هذه الأغنية التي لا أفهمها، سوف نرقص عليها بفرحٍ وصخب وجنون، سوف نرقص على إيقاعها، من دون أن نفهم معناها.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل