تعرّف الشراكة الثقافيّة نفسها وفق مفهوم اجتماعي وفكري يتم تداوله بين أشخاص يقفون على أرض واحد في الهمّ الثقافي، كمحاولة لمواجهة استهلاك السّاسة وتحويل مسار المجتمع إلى مشهد لسجن كبير اسمه “وطن”. ومن هنا ألخص بعض الصعوبات في السعي لأن تكون الثقافة أكبر من بلد وأوسع من تخلّيد زعماء الحروب الّذين لا يكسبون سوى معارك الانتصار على الإنسان.
فاللغة المشتركة الّتي جمعتنا مع أبناء جلدتنا، لا تغفر كلّ هذه المفارقات الّتي نعاني من ندوبها في صعود الثقافة إلى الواجهة كمصدر واضح للنبالة والإنسانية والمعرفة، نتحدث عبر ذات السِّيمياء اللغويّة، لنتفاهم على شكل التغيير، ولكن اللّغة الأخرى، الأسلوب هنا، ليس متوافقاً مع الرغبات المشتركة، إنّما هي فرصة للكشف عن الهشاشة النفسيّة الّتي تعانيها الثقافة السورية.
على سبيل المثال، تخدم الثقافة ومؤسساتها -حسب ما يبدو- أي نظام حكم عربي، وهي منحازة لتلميع صورة الزعيم، بغض النظر لو كان نظام هذا الزعيم سوف يصدّر لنا ثقافة التدجين أو سوف يذوّب بالأسيد أصابع الكتّاب، ويقطّع بالمناشير الكهربائية الصغيرة أجساد أصحاب العقول الّذين يفكرون خارج أروقة عبوديّته أينما وجدوا، ومؤخراً صارت المنافسة بين دول اتحادية وممالك محلية وأخرى سلطانيّة، في أساليب تصفية الأصوات الثقافية الّتي لم تسلّم هوائها وحريّتها لأجهزة الرقابة والقتل. ونتج عن ذلك انتقال وراثي عبر الإعلام إلى مخيّلة أغلب من قرر شراكة ثقافيّة لمبادرات جديدة من منظمات “ثقافيّة” إلى دور “نشر” مروراً بالمهرجانات “الأدبيّة” والملتقيات “الروائيّة” وصولاً إلى المنابر الثقافيّة “المتخصّصة”، الجميع دون مواربة بات أقرب لنهج التصفيّة المباشرة للآخر، بأحكام نقديّة أو دونها، المهم ألا نسمع سوى أصواتنا بينما تتساقط الأصوات الجديدة، حيث لا تملك تأشيرة دخول إلى هذا البلد، أو تزكية من ناشر أو علاقات مؤثرة في المشهد الثقافيّ، وأحدد هنا المشهد الثقافيّ السوريّ دون غيره، يتفنّن أصحابه والعاملين في حقوله بتفصيل المجازر الإعلاميّة واستغلال الانشقاقات الثقافيّة بين “الشركاء” للتناول والمتاجرة دون أي مبرر أخلاقي، ليؤكدوا فشل الثقافة في فهم الحياة ومحاولة تطويرها.
ثمّة فرق كبير بين أن نقتل الأب، بالمعنى الفكري للحالة، وبين أن نحوّله إلى ثغرة كانت تعيق تقدمنا، وقد يأخذ الأب هنا شكل العادات السياسيّة في نشر الثقافة. أو صورة الصديق المطّلع الذي يأخذ بيد الأصوات الجديدة في الكتابة. أو المؤسسة الكبيرة الّتي يخرج منها أشخاص يمكن أن يتطوروا وينجبوا عشرات المؤسسات الجيدة نسبيّاً والقريبة من الآخر-المتلقي من جهة، والمبدع الواقف في الظل من جهة أخرى.
لا قضاة يعدلون في الأحكام النقديّة للعمل الثقافيّ، إنّما هم حماة طُغاةٍ بوجوهٍ ثقافيّةٍ، وإلا كيف نفسّر دفاع عشرات الكتّاب عن القاتل في سورية وخارجها، ونراقب من يوجّه لهم المرافعات الإنسانيّة من المنافي، فيما المحكوم عليهم على صفحات المنابر وفي أروقة المؤسسات الطارئة-الثقافية، يتم استهدافهم إلى جانب كل من لا يشبه هذه الثورة ولا يشبه هذا النّظام ولا يشبه الموالاة ولا يحترم المعارضة ولا تعنيه السّلطة بقدر ما يخسر الكثير حفاظاً على حريّة عقله وتفكيره دون مساوماتٍ، ومن يا ترى يقود تلك الحملات خارج حدود الطاغية؟ إنّهم من أهل “الثورات” أنفسهم، ونستطيع بكبسة زر في البحث عبر الانترنت وبعض من كانوا على تماس مباشر معهم، معرفة أي نكران وخداع ومتاجرة “ثقافيّة” تحدث اليوم من طاولات المقاهي إلى معارض الكتب والمهرجانات والمنابر الثقافية.
لا يغفر لهؤلاء تغيير أمكنة إقامتهم باستمرار هرباً من الفضيحة، وتغيير لوغوهات “المشاريع” الّتي خطفت تمويل عشرات المستحقين ممن كانوا يحلمون بفرصة للوصول إلى الآخر من خلال محاولاتهم الثقافيّة في شتى أنواع الإبداع والإدارة الثقافية. لم يكن المثقف في سورية صديقاً لأحد سوى نفسه! وبعض من يشبهه قليلاً، وما أكثر الوحوش في هذا الوسط الضيق وأقل حيلتنا في قول كل شيء حول ذلك مهما كانت الأثمان!…
عذراً التعليقات مغلقة