“إلى ابنتي”.. نافذة على سراديب الظلام والقهر الواقعة أسفل الخارطة السورية

فريق التحرير24 يناير 2019آخر تحديث :

ربا الحمود – حرية برس

لم تمنع غرفة بطول مترين وعرض متر أن تمنع أحلام هنادي من الولوج إليها.. بتلك اللغة البسيطة، الناعمة والمحببة التي تصل إلى قلب كل من يقرأ حروفها، فهي لم تستثمر كل ما لديها من بلاغة كتابية لتعبر عن مدى تفوقها لغوياً، ولم تلجأ إلى استخدام أسلوب الشكوى والألم لاستجرار الشفقة من القارئ، لم تزد في وصف قساوة الأرض وبرودتها، ولم تتوقف إلا سطراً واحداً عند ألم جسدها، ولم تحمّل أي جهة أو تتهم -كما اعتدنا- أي طرف أو شخص بعينه عن السبب في توقيفها، ولم تتكلم عن رأيها السياسي كما تعودنا من الكتّاب، ولم تفرض رأيها عنوةً، أو تلمح إلى الفكر الذي يدفعها للانخراط في السياسة -بل على العكس- كانت تجد الحجة لكل من صادفتهم وتبرر التصرفات التي مورست بحقها، حتى السجّان، تعاملت معه على أنه مجرد موظف مجبر على أداء عمله كما هو مطلوب منه، ولم تبدِ تجاهه أي مشاعر بغيضة؛ فهي تجد أن كل السوريين يعيشون في سجن كبير، الفرق أنها في الداخل وهم في الخارج..

تلك الإنسانية النابعة من القلب، لم تنسِها اقتناص لحظات الفرح، لتبدأ صفحاتها بالإشارة إلى شهر الصيام والإعلان عن آذان المغرب، حيث يصرخ السجان بالجميع “الصايم يفطر” يليه صوت بسملة وسورة الفاتحة من زنزانة قريبة، ويأتيها صوت منشد يقرأ القرآن الكريم من زنزانة أخرى..

“أحس في هذه اللحظة بحضور الله بيننا.. هنا.. نوراً في ظلام الزنازين”.

تستطيع أن تتخيل طقوس رمضان حتى في الغرف السفلية وتكون سخرية الموقف بأن الإفطار يكون على تلك الوجبة التي وزعت في الظهر (البطاطا المسلوقة الباردة، وملعقة من الأرز السيئ الطعم).

المعتقلون لا زالوا رغم الجوع والتعب والخوف حريصين على أن يقيموا فروض الشهر الكريم بينما لم يكن للنظام وأتباعه أن يتصرفوا ولو لحظة بإنسانية لتوزيع الطعام وقت الإفطار.

كانت تتابع كيف يقوم المعتقلون بإيجاد لغة للتواصل بالتمدد على الأرض ورسم أحرف بين الثقوب حرفاً حرفاً.. وحين لاحظ أحدهم وجود فتاة معهم في نفس قطعة الظلام، أرادت أن تبوح لهم بقوتها، بمرحها عبر صوتها، فغنت:

“بكتب اسمك ياجبيبي عالحور العتيق.. بتكتب اسمي ياحبيبي ع رمل الطريق…” تكمل أغنيتها وكأنها تضيء قناديلاً على ممرات الزنازين، أستطيع تخيل الصمت الذي يشقه صوتها..

حتى الحب وجد طريقاً معبداً إلى قلب هنادي، حيث كانت تتواصل مع معتقل في الزنزانة المقابلة، ووجدا طريقة للتواصل عبر الكتابة ببذر الزيتون، وشاء القدر أن يكونا الآن زوجين، عايشا ذات الظروف، ولهما كمّ وافر من الذكريات.

زوجها الذي ما كان يصدق أول تعارفه بها أنها من الطائفة العلوية.. حيث يكتب لها بأحرف متقطعة:

– م ن و ي ن؟

– ال ل ا ذ ق ي ة..

– ع ل و ي ة

– أي

يكرر مجدداً بأحرف تكاد تتكلم لاستغرابها:

– ع ل و ي ة؟

ولم لا؟ فقد عمل النظام على مدى الأربعين عاماً السابقة ليكرس كل ما لديه للتفرقة بين أبناء الشعب الواحد، عدم التواصل وعدم فهم الآخر، وصولاً إلى الخوف واستغراب أي موقف متقارب، وتتجلى أبسطها في أن يعتقد أبناء الطائفة السنية أن العلويين جميعهم مؤيدون للنظام، والبعض حتى لا يتقبل حقيقة وجود علوي معارض.

لم تمتلك هنادي إلا إطلاق العنان لصوتها كتعبير عن وجودها.. وعند صعودها الباص، لم تنسى أمام قذارة ما يسمى قصر العدل، أن ترفع إشارة النصر، في باص يطلق الراديو لديه أغاني تمجد بشار وحكم العسكر..

وفي موقف وحشي آخر، يخبرونها عن موت والدها وكأنهم يخبرونها عن موعد تنظيف السجن، وحين طلبت منهارة أن تكلم والدتها لتعزيها، يخبرها الضابط بأن طلبها رفع إلى وزير الداخلية وعاد مع الرفض، اجل هكذا وزارة لا عمل لديها سوى الإعتقال التعسفي ورفض طلب اتصال ابنة بأمها؟ ربما يهدد اتصالها الأمن القومي ويضعف هيبة الدولة.

هذه السطور لم تكن مجرد قصة نقرأها على عجل أو شهادة نضيفها إلى قائمة لا تنتهي من الشهادات، نحن بهذه السطور كنا أمام تجربة لإنسانية هنادي التي تواجهت فيها وجهاً لوجه مع مصالحها الشخصية فانتصرت انسانتيها أمام تحمل كامل المسؤولية لمساعدة رفاقها كي لا يلحق بهم الأذى، كما لم تحمّل أهلها وزر فصلها من عملها ولا اعتقالها الثاني كي تخفف عن قلب والدتها المتعب، مع العلم أنك عندما تسجن لا تفكر إلا بنفسك وبطريقة تنجيك من الظلام، لكنها هنا بدل أن تلعن الظلام.. أشعلت شمعة وأضاءت نوراً لكل من حولها.

“رسالة إلى ابنتي” التي كتبتها هنادي لكل ابنة سورية، حيث لم تكن ابنتها قد ولجت الحياة حينها، لكنها الآن وفي بداية عام 2019 تتم السنتين من عمرها، سيلين الابنة التي سوف تقرأ يوماً هذه الشهادة لتعلم كمية المعاناة التي عاشتها والدتها لأجل الحصول على وطن خال من الموت والقتلة والحقد، وطن للجميع وليس لمن يسرق أكثر.

وجاءت مذكراتها في المعتقل في الكتاب- كشهادة حية على القمع والاستبداد- الصادر عن دار المواطن للنشر ضمن قطعة مؤلفة من 115 صفحة.

من أكثر نقاط القوة التي لفتتني في المذكرات، ودلت على ضعف النظام، ذلك العنف الذي سمح لامرأة أن تتسلل وراء هنادي المقيدة بالحديد والغير قادرة حتى على الدفاع عن نفسها، لتقوم هذه المرأة التي جسدت رمز النظام الوحشي بضربها وشد شعرها المنسدل على كتفيها.. كانتقام وضيع وتافه..

الآن وبعد مرور 6 سنوات على تواجدها في فرنسا.. وبعد مرور أربع سنوات على صدور كتابها وقدوم سيلين ابنتها ذات العامين هدية إلى قلب هنادي تخبرنا عن نشاطاتها وعملها الحالي كمترجمة لدى المنظمات التي تعنى بحقوق اللاجئين والفارين من الحروب.. والجمعيات التي تعنى بحقوق الأطفال والنساء، “العمل الأقرب إلى قلبي، حين أتمكن من ترجمة انفعالات شخص هارب من جحيم الحرب، وأتمكن من مساعدته في التعبير عن نفسه أو طمأنته”.

وتكمل “حاليا أعمل على نصوص جديدة تحاكي العلاقة بين الغربة والوطن، بكل ما في ذلك من اشتباك عاطفي يصل حد التشظي، لقد أرادوا لنا أن نكون موالاة ومعارضة، داخل وخارج، وأضرموا نار الفرقة في كل بيت، لكني أعتقد أن معاناتنا كفيلة بتوحيدنا يوماً ليس ببعيد، وأظن أن اسم سوريا أرحب من أن تعتقله عصبة من المجرمين، وأن هذه البلاد ستقوم من تحت الرماد قريباً، لن يكون الأمر سهلاً، لكني أظن أنه حتمية لا بد منها”.

عن الكاتبة

هنادي زحلوط من مواليد العام 1982 قرية صنوبر قرب جبلة بمحافظة اللاذقية، حصلت على شهادة الهندسة الزراعية ونشطت في دعم قضية المرأة والطفل في سوريا، انضمت إلى حزب الشعب الديمقراطي السوري – الحزب الشيوعي السوري المكتب السياسي سابقاً، بدأت مسيرتها السياسية قبل الثورة بأعوام تحت اسم مستعار (هيام جميل) استطاعت من خلاله أن ترسم عالماً بلا حدود لكل ما أرادت أن تعبر عنه دون خوف من رقيب أو مقص لكتاباتها، انضمت إلى الثورة في بدايتها واعتقلها النظام السوري مرتين إلى أن قررت مجبرةً فراق الوطن، راحت ترصد الانتهاكات التي تمارس بحق النساء والأطفال داخل سوريا وداخل السجون بشكل خاص ونشطت في حملات الدفاع عن الصحفيين والأصوات الحرة المعتقلة في سوريا لدى النظام والنصرة وداعش.

 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل