الانسحاب الأميركي يعيد رسم خارطة المنطقة وتحالفاتها

جمعة الحمود8 يناير 2019آخر تحديث :
الانسحاب الأميركي يعيد رسم خارطة المنطقة وتحالفاتها

بين أزمات عام مضى، وآخر مزدحم بالتحديات التي تواجه ثورة الشعب
السوري الذي مازال ضحية لصراع المصالح الدولية والإقليمية التي تحتل
أجزاء واسعة من الأراضي السورية، وقبل أن يطوي العام 2018 أيامه
الأخيرة، جاء القرار الأميركي المفاجئ بالانسحاب من سوريا، حيث
أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب في 19 ديسمبر / كانون الأول الماضي، سحب القوات الأميركية الموجودة في شمال شرقي الفرات، مؤكداً أن “تنظيم الدولة” قد دُحر في سوريا.

تبع ذلك تحوّل سريع في موقف ترامب -بعد الانتقادات الشديدة من دوائر واسعة من السياسيين الأمركيين، وحلفاء واشنطن في الساحتين السورية والدولية- حول كيفية الانسحاب، الذي سيتم وفقاً لعملية “بطيئة غير محددة”،  ومنظمة بشكل تدريجي، محدداً ثلاثة أهداف يجب التأكد من تحقيقها قبل الانسحاب الكامل من سوريا.

هذه الأهداف هي إنهاء تنظيم الدولة بشكل كامل، ومنع إيران من ملء الفراغ في المناطق التي ستخليها واشنطن، إلى جانب التأكد من حماية الأكراد بعد إعلان القرار الأمريكي بالانسحاب من شمال شرقي سوريا.

تتلاحق التفسيرات في العواصم العالمية والإقليمية حول الانسحاب وأسبابه والمخاطر التي تترتب عليه، في ظل تضارب المصالح الدولية والإقليمية في الأراضي السورية، وحول الجهة التي ستملأ الفراغ الذي ستتركه واشنطن بعد انسحابها، قبل البحث في الدوافع والأهداف وراء قرار واشنطن سحب قواتها من سوريا، وهل هو انسحاب حقيقي، أم أنه إعادة انتشار لن تبعدها عن الساحة وتستطيع العودة متى أرادت ذلك؟

لا بد من التوضيح أن قرار الانسحاب لا يمكن وضعه في سياق الصراع على الأرض السورية مع روسيا وايران وتركيا والنظام السوري فحسب، وإنما يوضع بسياق مجمل الصراع في المنطقة والعالم وتحالفاته الناشئة، وأن السياسية الأمريكية في تعاطيها مع مختلف الأزمات والحروب حول العالم، تنطلق من خلال استراتيجية “إدارة الصراع” وليس إنهائه، حتى تتحقق الأهداف المعلنة وغير المعلنة التي تسعى اليها، وسوريا -ساحة الصراع الدولي والإقليمي والداخلي- لن تكون استثناء ووفق هذه المعادلة يزداد الأمر تعقيداً وتدويلاً.

تعتقد الولايات المتحدة الأمريكية -وهذا صحيح إلى حد بعيد- أن استمرار وجودها على الأرض السورية هو ضمانة وحجة لاستمرار وجود بقية الأطراف المحتلة (روسيا وإيران وتركيا) كحلف مصالح يناصبها العداء، لذلك تسعى واشنطن إلى تفكيك هذا الحلف -بالترغيب تارة والترهيب مرة أخرى- الذي له رؤى وأهداف في الحقل السوري تتفق حيناً وتتناقض حيناً أخرى بحسب دوافع كلٍ على حدى؛ الروس وجدوا في انكفاء واشنطن عن المنطقة في عهد الرئيس الأمريكي السابق أوباما فرصة لملء الفراغ خصوصاً مع اكتشاف الغاز في حوض شرق المتوسط، وإيران الطامحة إلى نفوذ أوسع داخل العمق الاستراتيجي لدول المشرق العربي، إضافة لتسوية ملفها النووي مع الغرب، أما تركيا فقد سعت إلى قضم الأكراد السوريين الذين يشكلون بالنسبة لها مشكلة أبدية؛ فبات مايجمع الدول الثلاث أكثر مما يفرقها، حيث بلغ التعاون والتنسيق بينهم إلى التحالف في إدارة الحرب السورية بقيادة موسكو، ما يعني أن لا حلول ممكنة من دونهم، وحتى إن تفاوتت مصالحهم في مواقع أخرى، كان الاقتصاد يرمّم ما تتلفه السياسة وتناقض المصالح.

كل المؤشرات تدلل أن هناك هدف أمريكي رئيسي لانسحابها من منطقة شرقي الفرات الاستراتيجية ، تتفرع عنه بقية الأهداف التي تنشدها واشنطن ، وهو تفكيك تحالف أستانة الذي يجمع ” الروس و الايرانيين والاتراك ” حيث بدأت علامات زعزعته تظهر بشكل علني ، مما يشير لبدء مرحلة جديدة ” مرحلة مابعد الانسحاب الأمريكي ” تعد من أصعب مراحل التوازنات ، سيتواجه بها الحلفاء والأعداء وجهاً لوجه

الولايات المتحدة تستدرج تركيا -التي تطلب الدخول إلى شرقي الفرات للقضاء على المليشيات الكردية التي تعتبرها ارهابية- لكي تعود عضواً فعالاً في حلف الناتو ، حيث ألمح الرئيس الأمريكي ترامب إلى امكانية تسليم قيادة التحالف الدولي ضد الإرهاب إلى أنقرة عبر اتفاق تركي أمريكي، مما أثار غضب الروس الذين بدؤوا ينحازون بشكل كامل إلى نظام الأسد ضد المصالح التركية والمعارضة السورية التي تدعمها أنقرة، حيث ردت موسكو على التقارب التركي الأمريكي بالقول إن الوجود التركي في سوريا “مؤقت” تستدعيه المخاوف الأمنية التركية من خطر الإرهاب، وإنه يتوجب على نظام الأسد السيطرة على المناطق التي تنسحب منها القوات الأمريكية شمال شرق سوريا، ولا شك أن تصربحات موسكو تحمل دلالات معينة في هذه المرحلة، وتشي بالكثير الذي يمكن أن يحدث مع بدء هجوم تركي مزمع في منبج وشرقي الفرات بعد انسحاب واشنطن من المنطقة، خاصة في ظل توجه الأحزاب الكردية الانفصالية، إلى تسليم مناطقها للنظام عبر وساطة روسية.

طهران ترى أن الانسحاب الأمريكي من سوريا هدفه تطويق إيران في العراق، فسحب واشنطن لقواتها من سوريا يقابله تعزيز الوجود الأمريكي في العراق قرب الحدود الإيرانية، حيث شرعت واشنطن بتطوير وتحديث قاعدة “حرير” شرقي محافظة أربيل والتي تبعد 60 كيلو متراً عن أولى البلدات الإيرانية، يضاف إلى ذلك قيام الولايات المتحدة بإنشاء قاعدتين جديدتين في الأنبار على مقربة من الحدود السورية العراقية، الأولى في ناحية الرمانة التابعة لقضاء القائم على والثانية في مدينة الرطبة الاستراتيجية، حيث تشكل نقطة التقاء طرق رئيسية قادمة من ثلاث معابر حدودية هي عرعر من السعودية، وطريبيل من الأردن، والوليد من سوريا؛ وبذلك يصل عدد القواعد الأمريكية في الأنبار إلى أربعة قواعد بالإضافة إلى قاعدتي “الحبانية” و”عين الأسد”، ما يعني أن واشنطن وضعت حجر عثرة أمام الممر الإيراني من العراق إلى سوريا ولبنان، من خلال إعادة نشر قواتها وقواعدها العسكرية في الأراضي العراقية، فما جرى في العراق وسوريا خلال العقدين الماضيين إلى يومنا هذا لايمكن الفصل بينه على الإطلاق.

ثمة مرحلة جديدة من الفوضى والنزاع الناجمة عن التنافس بين القوى الإقليمية لسد الفراغ الأميركي، طالما أن روسيا ليست مؤهلة للعب هذا الدور، لا بقوتها العسكرية ولا بفكرتها السياسية وقدرتها الاقتصادية، وطالما أن أوروبا الغربية ليست مهتمة أصلاً بمثل هذا الدور، فلن يكون هناك طرف بمنأى من تبعات هذا القرار إن كان جدياً، تبعات قد تؤدي إلى نشوء تحالفات ومحاور جديدة في المنطقة في ظل التوجه الأمريكي الذي يطالب بدخول قوات عربية، تحل في المناطق التي ستخليها واشنطن.

لعل قرار الانسحاب محاولة أميريكية لإبعاد تركيا عن روسيا، والأخيرة تعتقد أن مساهمتها في توسيع النفوذ التركي والإيراني سيشكل ضغطاً على بعض الدول العربية المتحالفة مع أمريكا، لإجبارها على إعادة النظام إلى الجامعة العربية -وهذا ما يرفضه الأوربيون لأنه يشكل اعترافاً كاملاً بنفوذ روسيا ويقوّض فكرة الحل السياسي- بحجة الحفاظ على الأمن القومي العربي، بينما تركيا تعتمده كاستراتيجية لها في سوريا، لتحصل على اعتراف أمريكي – روسي بنفوذها الدائم في سوريا سياسياً وعسكرياً، فما تريده أنقرة أن تستقبل سوريا المستقبل “اسطنبول” وتستدبر “القاهرة والرياض” ولكنّ ذلك يبدو بعيد المنال في ظل استمرار الصراع بين واشنطن وموسكو والانحياز التركي لأحد الطرفين الروسي أو الأمريكي سيقابله استعداء الطرف الثاني.

كل هذا وسط تراجع الحديث عن جوهر المشكلة -بأن ثورة قامت وهناك شعب يريد الخلاص- وأن السوريين وحدهم هم من يواجهون الموت في كل ذلك، ولا أحد يستطيع أن يراهن على حقيقة هذه المرحلة -ما بعد الانسحاب الأمريكي-
وأحداثها ومآلاتها؛ فقد تكون بداية عهد جديد، وقد تكون بداية صراع آخر مختلف عما سبق.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل