ماجد عبد الهادي
تحفر الحرب وأهوال كوارثها في أرواح من يبقون على قيد الحياة فوق تراب مسرحها، مثلما يحفر رصاصها وشظايا قذائفها في أجساد من تودي بهم إلى دار الآخرة، أشلاءً ممزقةً تحت ركام بيوتهم. ولو أتيح لملايين الضحايا الذين شهدنا موتهم المأساوي في صراعات السنين القليلة الفائتة، أو العقود الطويلة التي سبقت، أن يعودوا من نومتهم الأبدية، لفُجِعوا على الأرجح بما حلّ بالناجين من تعفن، وما تفشّى بينهم من أوبئة اجتماعية، تدمي قِيَمَهُم وتفتك بأخلاقهم، بل تسحقها على نحوٍ قد يهون إزاءه مشهد الجثث تتناثر في ميادين القتال، ولا تجد من يواريها في الثرى، فتتناهشها سباع البر.
ذاك حُكْمٌ قد يحدو بالقارئ إلى أن يتطلع ملياً في مرآة ذاته، أو يمعن النظر في سلوك المحيطين به، ليحلل عينة الكلام البسيط في أنابيب الواقع المعقد، ويكتشف، من ثم، أول ما يكتشف مُحِقَّاً، اقتصار رؤية الكاتب على محاولة تشخيص حال المهزومين في حروب هذا الزمان، من دون المنتصرين. وعذرُه أنه ينتمي إلى أمةٍ لم تعرف نشوة الظَّفَر منذ أجيال، إلا في صراعاتها البينية التي غالباً ما تكون نتائجها أفدح ضرراً، وأقسى إيلاماً، من متواليات الاندحار أمام جحافل الغزاة.
الهزيمة، إذن، هي الكلمة التي تفرض نفسها رديفةً لمفردة الحرب، إن جرَّب أيٌ مِنَّا فحص بصماتها على سلوك الناس، بمجرد انقشاع غبار المعارك، عن بلادٍ عوقبت بإغراقها في دم أبنائها، لأنهم تجرّأوا، في لحظة تاريخية حالمة، على مغامرة تصحيح مسارها نحو مستقبل إنساني يغاير واقعاً ماضياً وحاضراً، طالما كانت فيهما أشبه بمزارع يملكها فَاسِقُون مجرمون، وتتكنّى بأسمائهم، ويورثونها لأبنائهم الأشد فسقاً وإجراماً.
إلى رأس قائمة الأمثلة الأفصح إنباءً عن أثر الصواريخ في النفوس، تقفز هنا حرب السنوات السبع الماضية، أو قُل هزيمة الشعوب العربية المستعبدة أمام بطش الحُكَّام المستبدين المزمنين، ليس فقط بسبب ما أنتجت من أيتام وأرامل ومشرّدين قد يُشَكِّلُون تربة خصبة للتطرّف في المستقبل القريب، وإنما لأنها أدّت أيضاً إلى صدمةٍ هائلة، لا سيما بين نخبٍ وقواعد ثورية وجدت نفسها عاجزةً، ولا تزال، أمام مشهد الحرائق تحيل بلداناً عدة في المشرق والمغرب العربيين إلى أجزاء من الجحيم، وتقذف ملايين من أبنائهما على أرصفة القارّة الأوروبية وهوامشها، فضلاً عن ملايين آخرين أودت بهم إلى القبور الجماعية وأقبية السجون.
سيكون مدعاةً للتأمل الموجع في غمار الصدمة التي تعقب الهزيمة أن تختلط المشاعر، وتتوه الرؤى، وتتشتت المواقف، فيُشهر المهزومون أصابع الاتهام في الوجهة الخطأ، ويطلق بعضهم النار على أيقوناتهم الحية، إنْ بالمعنى الفعلي للكلمة، كما نراه على شاشات التلفزة رصاصاً غادراً يقتل أنبل شباب الثورة في سورية واليمن وليبيا، أو بالمعنى المجازي كما نقرأه على مواقع الإنترنت لغة اغتيال تستهدف أهم رموز النضال القومي والديمقراطي على امتداد مساحة العالم العربي.
ووسط شيوع منطق التشكيك الذي يتغذّى أحياناً من أقاويل وثرثراتٍ عن نجاح أنظمة الاستبداد في اختراق صفوف المعارضة، سيحدث أن تغدو النميمة مرضاً واسع الانتشار، وأن تزدهر الدسيسة وسيلة خلاصٍ فردي، وأن تَمَّحي معايير تمييز الصالح من الطالح، حتى عند أغزر الناس معرفةً، ليسود الظن بأننا قد بلغنا فعلاً عهد السنوات الخداعات التي “يُصَدَّقُ فيها الكاذب، ويُكَذَّبُ فيها الصادق، ويُخَوَّن فيها الأمين، ويُؤتَمَن فها الخائن، وينطق فيها الرويبضة”.
لكن الإنصاف يستدعي التذكير، في المقابل، بأن مختبرات السلطة كانت على الدوام منشأً أساسياً لأسوأ الأمراض الاجتماعية التي استشرت وظهرت أعراضها حادّة، عقب حسم الحرب لصالح قوى الاستبداد. هناك، باختصار شديد، غُرست في أزمنةٍ سالفةٍ بذور الإفساد، وتولتها المؤسسات الرسمية بالسقاية والرعاية، كي تطرح في زمن اشتداد الصراع ثمارها السامة، تشكيكاً وتخويناً ورصاصاً ضد من يتشبثون بألوية الإصلاح والتغيير، لا ضد أعدائهم.
انظروا مثلاً، وهذا مظهرٌ آخر من مظاهر التردّي الأخلاقي الذي صنعته الطغم الحاكمة، وانفجر بعد صدمة الهزيمة، كيف لا يتورّع كتّاب ومثقفون وفنانون ومواطنون، رجال ونساء، بعضهم كان من أصدقاء الصحافي السعودي الراحل، جمال خاشقجي، عن تبرير جريمة قتله، إلى درجة التشهير بمن يطلبون له العدل، وطعنهم في شرفهم الوطني وكرامتهم الإنسانية، باعتبار ذلك طريقةً لنيل رضىى الحاكم القاتل، أو للنجاة من وعيد غضبه على من يلوذون بالصمت.
نحن إذن، وللمرة المائة ربما، أمام سؤال “على من نطلق الرصاص؟” الذي استخدمه كمال الشيخ ورأفت الميهي عام 1975 اسماً لفيلم سينمائي بديع، يمسك بتلابيب الخراب في مصر إبّان عهد أنور السادات، وما عاد لأي منا حين يُصَوِّب فوهة الكلمات ويضغط على زناد الإدخال في لوحة مفاتيح الكمبيوتر، سوى أن يكون قد اختار، قصداً أو جهلاً، موقعه على لوحة الصراع، وحدد إلى أي الفسطاطين المتصارعين في هذه المنطقة ينتمي.
عذراً التعليقات مغلقة