تختار الأنظمة المستبدّة جُملةً من الشروط الّتي تناسب تسطيح المُخيلة الثقافيّة والمعرفيّة لدى المجتمع، عندما تُقرّر تعيين قياداتٍ تمثل التّحكم بمفاصل الإدارة الثقافيّة والإعلام، ولعل أبرز تلك الشروط هو الالتزام الفطري بالحزب الحاكم وخطوطه المحظورة من المساس “بهيبة” الدولة المقصود بها رئيس النّظام، ثمّ الحرص الشّديد لتحوّل المؤسّسة الثقافية إلى حظيرة عسكريّة تمنع انتشار مرض “وهن نفسيّة الأمّة” المقصود به انتقاد السّياسات الجوهرية الّتي تؤمم الفساد الاجتماعي والأخلاقي وتسمح باستثمار المناصب والمؤسسات لمصالح شخصيّة، تماماً كما يفعل “حزب البعث” الّذي يهيمن على كلّ شيء في سورية.
إذ تعمل الفرق الحزبية التابعة لـ “البعث” المنتشرة في بنيّة النّظام السّوري، على اختيار ورصد وتفريغ كلّ ما يأتي من صحف وكتب ونشرات إعلاميّة ومبادرات ثقافيّة إلى الموظفين أو إلى المكتبات العامة ومعارض الكتب، ويتم تمرير كلّ شيء يخص الثقافة والمعرفة على “مجهر” تلك الفرق الأمنيّة، وحين يتم التقاط أيّ تأويل أو تشبيه أو نقد أو سخرية أو مقال أو كتاب أو بحث أو موضوع أدبي، خارج عن المألوف في تناول الحياة وتوعية القارئ، تصطاد تلك المكاتب أصحاب هذه الأفكار وتبدأ بحياكة تقارير التّخوين والفرز.
ومن هنا يتم اختيار الأشخاص القلة الّذين يعملون في ذلك الحقل لتزكيتهم بعد أن يمروا عبر مشارط وسنّارات وكلاء “حزب البعث”.
وبطبيعة الأحوال فإنّ العاملين في صفوف هذا الحزب، قد تعرّضوا بشكل مباشر لعملية مسح مخيّلة ثقافية مُنظّم وتم زرع بذار مستبدّة في تجاربهم وفهمه لطبيعة الثقافة وآلية محميّة بحديّة عاليّة ضدّ التلقي المغاير لسياسة النّظرة الأمنية، وأذكر هنا حادثة بسيطة تختصر الكثير من الرعب لدى هذا النّظام في كلّ مفاصله.
عندما طلب الأسد من الموالين له في الداخل السّوري أن يقوموا بمسرحيّة “التصويت على الدستور” حاولت جريدة حزبيّة تابعة لمقلتة الأحزاب المسمّاة “الجبهة الوطنيّة التقديميّة” أن تصوت بـ “لا اعتراضية” على مادة في الدستور بسبب وجود تميز في دين رئيس الدولة، وقبل أن يتخذ المسؤول عن الجريدة -الذي هو بطبيعة الحال ابن لهذا الحزب البعيد عن البعث والمخترق حالياً من “رامي مخلوف”- حاول أخذ الموافقة من أمانة الحزب على ذلك وتأخر صدور العدد في ليلة إغلاق تحريره يوماً إضافيّاً، وتم أخذ الموافقة باضطراب! وما إن أرسلت الجريدة إلى مطابع “دار البعث” الواقعة على أوتوستراد المزة بدمشق، حتى أخبر أحد عمال المطبعة الإدارة الأمنية في الدار أن هناك “لا” على مانشيت تلك الجريدة الحزبية ويجب أن يتم توقيف الطباعة!
وفعلاً ارتبكت إدارة الحزب الموالي “للجبهة التقدمية” وتأخّر صدور العدد ليوم وتم إزالة المادة ووضع بيان فيه الكثير من المُحاباة والشكر على فرصة “التصويت للدستور” وسجل الحزب إيّاه موقفاً موالياً بكلّ قوته “لدستور الأسد”.
ومن هنا نعلم أن الرقابة تبدأ من عمّال المطابع وصولاً إلى جامعي النفايات الطباعية ومؤسسات الثقافة في سورية، هي ذات العقلية المُستبدّة وكلّما كانت أكثر قسوة وحزماً باتجاه ما يخدم النظام، يترقّى أصحابها بالمناصب، بغض النظر عن الكفاءة العلميّة أو الخبرة الإداريّة الحقيقيّة!
إنّ ثقافة الاعتراض الّتي تخلّص منها النّظام في سورية، جعلت جيوشاً جرارة من “البعثيين” وأشباههم، رهن إشارة التعيينات في مؤسسات الدولة، وهؤلاء لم يكن أغلبهم يستطيع أن يفكر خارج دائرة الموافقات الأمنية و “المَكرُمات” الّتي تجعلهم يتدرجون على رأس المؤسسات دون أن يؤثر تنقلهم بالركون العام المطلوب لدى النظام حفاظاً على “هدوئه” وينطبق ذلك على الأمكنة الكبيرة في البلاد من مواقع تُحرك الاقتصاد والثقافة والإعلام والعسكر والسياسية وإمساك بالأمن. بالتالي فإنّ مبادئ الفَرعنة في القيادة غير مسموح بها، مهما كانت ولاءات هؤلاء متقدّمة، الدليل عند حدوث أي صراع بين قادة أمنيين كبار لدى النظام، يستطيع هذا الأخير التخلص منهم بسهولة دون التأثير على منظومة العمل الإجراميّة، لأن الكيانات كلّها تعمل حسب تصور عام لا يمكن لفرد التأثير به مهما حاول إجراء تمثيلات تطوير أو رفع سقف حريات، وتجربة ربيع دمشق التي اصطاد فيها النّظام المعارضة بعد أن تمت عملية توريث الحكم لبشار، تشهد بذلك.
نستطيع أن نضيف أنّ أي مبادرة لتطوير الحياة السياسيّة والثقافيّة خارجة المنظومة الأهلية للبعث، سوف يكتب لها الفشل والاتهامات الجاهزة بالتخطيط للإخلال بالاستقرار أو الموت العام، الذي اسمه “أمان” حسب قاموس النظام، ناهيك أن عملية المبادرات المضادة الّتي تضع في الواجهة نماذج منحولة من الثقافة والجهل، كانت أيضاً أحد أشكال القتل السّياسي الّتي تمارسها آلة البعث المتوحّشة وأجهزته حتى اليوم.
عذراً التعليقات مغلقة