ساءت العلاقات التركية ـ الأميركية ـ الحليفان الحميمان في حلف “الناتو” ـ على خلفية اعتقال تركيا للقس الأميركي أندرو برانسون، في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2016، واتهمته الحكومة التركية بالتورط مع جماعة “الكيان الموازي”، جماعة فتح الله غولن، التي تصنفها أنقرة جماعة إرهابية إلى جانب جماعة حزب العمال الكردستاني PKK، حيث وصفه أردوغان بأنه “متآمر على البلاد وداعم للإرهاب”.
وتشتبه أنقرة بدور واسع من جماعة فتح الله غولن في تدبير المحاولة الانقلابية العسكرية الفاشلة ضد حكومة حزب العدالة والتنمية في يوليو/تموز من عام 2016.
زجت تركيا برانسون بالسجن، ووضعته تحت الإقامة الجبرية. ردت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتطبيق حزمة من العقوبات الاقتصادية، أدت إلى انخفاض غير مسبوق في قيمة الليرة التركية في 18 آب/آغسطس من عام 2018.
لعبت قضية اختفاء وقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، داخل قنصلية بلاده في اسطنبول في 2 أكتوبر/تشرين الثاني الفائت، دورا مهما في كسر الجليد بين أنقرة وواشنطن، خصوصا بعد تكثف اللقاءات الرسمية وغير الرسمية بين الطرفين، وظهر ذلك بشكل واضح بعد إعادة إطلاق سراح أندرو برانسون في 12 أكتوبر/تشرين الثاني الماضي.
لشكل العلاقات التركية ـ الأميركية تأثير واقعي كبير على الساحة الكردية السورية، إذ عملت منظومة حزب العمال الكردستاني PKK في إقليم الشرق الأوسط، وخصوصا امتداده داخل سوريا، الممثل بحزب الاتحاد الديمقراطي PYD، على الاستفادة القصوى من ثلاثة عوامل أساسية داخلية سورية وخارجية إقليمية:
الأول، هو انهيار الدولة السورية بمعناها السياسي والاجتماعي، وكطاقة ضبط بيروقراطية عامة، في مناطق شمال سوريا، والمناطق ذات الكثافة الكردية. وبالتالي، قدم هذه التنظيم المحكم نفسه كمنظومة بديلة عن غياب الدولة في تلك المناطق وعلى أنها قادرة على تحقيق الأمان، ومنع الفوضى، وتأمين الخدمات الأساسية، وذلك بالتنسيق مع النظام السوري، كي يحافظ آل الأسد على ورقة هذا التنظيم كإبرة إزعاج ضد تركيا من جهة، ومنع المعارضة السورية المسلحة بتشكيلاتها الإسلامية والمعتدلة بالتمدد في المناطق الشمالية الشرقية من سوريا من جهة أخرى.
والثاني، هو محاربة تنظيم الدولة الإسلامية بنجاعة، بدعم تحالف دولي واسع تقوده الولايات المتحدة الأميركية. أدى هذا الدعم إلى مقاومة تنظيم هجوم “داعش” العنيف في مدينة كوباني ـ عين العرب، وإخراج قواته من المدينة بشكل كامل في 27 يناير/كانون الثاني من عام 2015، وطرد “داعش” من الرقة، “عاصمة الخلافة”، ونقطة تكثف التنظيم الأساسية في سوريا، في شهر أكتوبر/تشرين الثاني من عام 2017.
والثالث، هو استفادة هذا التنظيم من التناقض التركي ـ الأميركي في سوريا، إذ تركزت الاستراتيجية الأميركية في سوريا على محاربة الإرهاب، ومنع تنظيم “داعش” من التمدد، وتأمين حدود إسرائيل الشمالية، وتقليص النفوذ الإيراني، والحد من تدفق اللاجئين إلى أوروبا. في المقابل، اختصرت تركيا، وخصوصا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، الملف السوري في الشأن الكردي، منعا لتكرار التجربة الكردية العراقية بعد حرب العراق عام 2003، وخوف تركيا التاريخي من انتفاضة شعبية كردية تحرك أكثر من 20 مليون كردي يقيمون داخل تركيا.
لكن الآن، الوضع اختلف. العوامل التي أدت إلى نمو وتمدد منظومة حزب العمال الكردستاني بدأت تتلاشى. فالنظام السوري بعد أن تحول من دولة إلى ميليشيا (بضبط إيراني)، يخوض الآن مرحلة عكسية في العودة من ميليشيا إلى دولة (بإدارة روسية، وهو يرى المناطق الكردية جزءا من “قلب العروبة النابض”، ولا يبدو أن عمق نظرته الأساسية تجاه الأكراد قد تغيرت). وكما أن تهديد تنظيم الدولة الإسلامية، العامل الأكبر في غض الطرف على نشاط حزب العمال الكردستاني في سوريا، قد تلاشى أيضا بعد انحسار هذا التنظيم في سوريا والعراق. أما العلاقات التركية ـ الأميركية، فهي تشير إلى انتعاشة قوية، فما هو المصير الكردي السوري الآن؟
تواجه سلطة الأمر الواقع، أي سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، خيارات صعبة. فإما أن تسلم سلاحها بشكل كامل للنظام السوري بضغط تركي، أو لجهات دولية، وتنسحب من الأراضي التي سيطرت عليها بعد عام 2012، لما انسحب النظام السوري من شمال شرق سوريا، وهذا احتمال غير واقعي؛ إذ من غير المعقول أن ترضى القوات الكردية بتسليم سلاحها بشكل كامل دون أي مقابل.
الخيار الثاني هو أن تتم إعادة هيكلة القوات العسكرية الكردية لتصير جزءا من الجيش النظامي التابع للنظام السوري، وهو الاحتمال الأقرب، لأن النظام السوري مهتم بإبقاء هذه القوات بشكل أو بشكل آخر، كي يحافظ على ورقة ضغط ضد تركيا وقت ما يشاء.
أما مسألة اندلاع حرب بين تركيا و”قوات سوريا الديمقراطية” في المناطق الشمالية الشرقية من سوريا، من أجل القضاء على القوات الكردية، فهو سيناريو يبدو بعيدا، لأن تلك المنطقة مليئة بملايين السكان المدنيين، الذين سيخضّون العالم إذا ما شكلوا موجة نزوح واسعة كما حدث في عام 2015 في أوروبا.
- المصدر: الحرة
عذراً التعليقات مغلقة