الثقافة شمّاعة القتل السّياسي

عمر الشيخ15 نوفمبر 2018آخر تحديث :
الثقافة شمّاعة القتل السّياسي

عادة ما يكشف الشّارع السّوري عبر بلدان اللّجوء بالتوازي مع الأصوات المتبقية في الداخل السّوري، مدى رغبة النّاس بالبحث عن مُتنفس يُعفيهم من صراعات السّياسية وخباثة الفصائل العسكريّة والميليشيات الطائفيّة المُرتزقة على طول البلاد وعرضها.

فتنوّع الخبرات المعرفيّة لدى المُهتمين بحقل الثقافة، نشراً وكتابةً وتغطية إعلامية، يجعل من ذاك المُتنفس مساحة حقيقية للتعبير عن الذات، حيث الحلم القديم بالحريّة وصرخات إسقاط الدكتاتور الأولى، والبحث عن مكامن التطور الحضاري للفرد والمساهمة المباشرة بجعل المجتمع أكثر اهتماماً بالحياة والاستمتاع بها على حساب الضجر القاتل من صراعات الحرب وحساباتها الخاصّة، ولكن لا يمكن على الاطلاق فصل النّشاط السّياسي والقدرة على قراءة الواقع المرافق له، عن العمل الثقافيّ كمفهوم حوار فكري يبحث عن حلول اجتماعية ويعبّر عن الشّارع ونبضه دون رقابة وخوف وتسييس، كمصدر للتأثير في الرأي العام.

إنّ الدعاية الإعلاميّة لدى الأنظمة العسكريّة، تبتعد أكثر ما يمكن عن المُشاركة بالتعدّديّة السّياسية كما تبتعد عن المُبادرات الأهليّة الّتي لا تعتمد بقرارها وتوجهها الفكري على دعم تلك الأنظمة، حتّى تنجو من تبعيتها، بل ربّما تقوم على قاعدة شعبيّة، تنشُد تثقيف النّاس وتوسيع مدارك وعيهم السّياسي. وعادة ما تعتمد تلك الأنظمة الشموليّة في ضفة حكم البلاد، على استرقاق كلّ أشكال الثقافة لخدمتها بطرق مذلّة، تكرّس النّكرات أو أصحاب الشّهرة الطارئة من المشتغلين بالثقافة وأصحاب الولاءات، على حساب الكفاءات المبدعة والعقول المتنوّرة المستقلّة، غير الملعونة بعبوديّة القائد.

وبما أنّه على المستوى السوري، تم تحويل كل ما يمت للثقافة بصلةٍ، إلى بوابة للتغني بالخطاب السّياسي الحاكم، وعدم المساس بالنقد الأيديولوجي للسلطة الأمنيّة، فقط أصبحت الواجهات الثقافيّة “شِبهُ المستقلة” تتنفس قبل الثورة بشيء من التعبير عن القهر ورفض الطغيان، ولكن مع تزايد وتيرة القتل لأجل التّوحش والقضاء على أي فكر إنساني صادق، أصبحت نماذج أدبيّة مثل “الشّاعر نزيه أبو عفش” الّذي كان يردّد قصائدها في أحد الليالي عام 2007 داخل قبو محترف “مصطفى علي” بدمشق القديمة، وكان يرفض الحديث للصحافة الحكومية أو وجود التلفزيون الرسمي، كنوع من تسجيل الموقف الخجول ضد سطوة النظام. كما ظهر في فيلم للمخرجة السورية هالة العبد الله، وهو يتحدث عن بعض التفاصيل مع الشاعرة الراحلة دعد حداد قبل الثورة بسنوات، وكأنّه يبشّر بصعود الشّعر إلى مواجهة ثقافة السلطة وكتّابها، متذكراً التّضييق والرعب الأمني بسورية، إلا أنّه اليوم، أخرج وجهه الآخر، بمديح الأسد وقبول جوائزه المُسمّاة “جوائز الدولة التقديريّة بالثقافة” ولا تكاد تخلو قصائده الحالية في جريدة الأخبار اللبنانية التابعة لإيران، من صور الهزيمة اللّغويّة والفكريّة العلنيّة في استثمار آخر معاقل البراءة الإنسانية “الشّعر”! ليركب تلك الموجة من تمجيد السلطة وجيشها واعتبارها “الوجه العلماني” المزعوم ضد الثورة “المتطرفة”، علماً أن الثورة السورية لم تكن إلا بحاجة أن تكشف مثل هكذا شمّاعات تعلق عليها النُخب الثقافية نفاقها السوري البعثي بحق شعب انتفض ضد الظلم وكان بحاجة الثقافة لأن تلحق به، لتكون شريكة في الدفاع عن كرامة الإنسان، لا أن تلحق بالعسكر والدّين والقتل.

مثل هذا الشّاعر ثمّة عشرات الواجهات الإعلاميّة الدعائيّة، الّتي تسخر من خلالها آلة “الثقافة الرسمية” للتماهي بالقضاء على أيّ وعي سياسي بمقدور الناس النظر عبره إلى مستقبل حر في دولة بتعددية سياسية، واجهوا حلمها الثوري بشعار واضح “الأسد أو نحرق البلد”!

دعونا نلاحظ ذلك، لقد اعتمد النظام في سورية بشكل جدي على دعاية القول، والثقافة كانت خاضعة بشكل تام لتلك الدعاية، فالهيئات “الرسمية” كانت تطل عبر منظومة الدعاية إياها، وتكرّس القول الواضح الذي يخيّر الناس إمّا حرقهم أو الطاعة للقائد، رغم كل الحالة الدمويّة في سورية، فالعودة كانت لثقافة القول والخطاب الحاسم لجهة الطاغية.

إنّ النّاس في بلادي متورّطون بأجيال من المخبرين داخل الأسرة الواحدة، أعتقد أنهم يحتاجون الكثير من الوعي الإعلامي والاطلاع المعرفي لهضم أساليب التربية الرجعية الّتي نشاهدها اليوم في المدارس ومنابر الثقافة والإعلام داخل سورية، والّتي تعزز الكذب والجهل وكل أشكال الخنوع البشري.

خلاصة القول، تستطيع الثقافة إدارة التوجّه الإعلامي في سياق خدمة الإنسان وحقوقه، كما يمكن أن يستغلها ساسة الطغاة لتكون شمّاعة الاختلاف المزعوم الّتي تسمح بإلقاء نصوص أدبية ومحاضرات ثقافيّة عن الحريّة والعدالة وحب الوطن، بينما تنتصب في أعلى تلك الفعاليات صورة لرأس النظام الحاكم.

وإذا كنّا نرفض تحويل الثقافة إلى شمّاعة لتعليق الاختلاف المزعومة القائل: السياسة لا علاقة لها بالثقافة! إذا هل هنالك أجوبة منطقية لهذا:

لماذا كلّ تلك الهيمنة على المعرفة في سورية؟

لماذا كلّ ذلك التّسيس للعناوين والكتب ودور النشر ومؤسسات العمل الثقافية؟

لماذا لا يختارون لإدارة تلك المواقع سوى الشخصيات ذات الولاء الأمني؟

لماذا لا تظهر هيئات عمل ثقافي خاصة وأهلية لا تسجد للنظام؟

لماذا في كلّ مشروع ثقافي يجب أن يكون على رأس المدعوين أناس من أزلام حزب البعث وأفرعه وأمنه وشرطته؟

ببساطة شديدة لأن الثقافة هي صُلب المشكلة بالتنوير الحقيقي للوعي لدى السوريين، والكسل العام بالبحث والتقصي عن الحقيقية ومفاهيم الحريّة وقيادة المجتمع نحو العدالة، دفع بالنظام لأن يصنع ثقافة هجينة وأمنيّة على قياس الجلاّد ورضاه، إذ يزيد عمرها الآن عن نصف قرن، فكيف نواجه ذلك؟

يتبع…

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل