لو كان نزار قباني حياً، الآن، لما كان تساءل “متى يعلنون وفاة العرب”.. ولا كان أوصى أن يُدفن في دمشق التي صبغها بياسمينه، فاستحال نهرها مجرى دماء..
ولو كان شاعر اليمن العظيم، عبد الله البردوني، حياً، لرأى أن صنعاءه لم تتغير بعد عقود ولا تغير عشاقها، وكأن قولته تضج بالمعاصرة:
ماذا أحدِّثُ عن صنعاءَ يا أبتي مليحةٌ عاشقاها: السلُّ والجربُ
وكل ما حدث بعد عقود من “التطوير والتحديث” ووصول طبقة شابة إلى سدة الحكم في بعض الأقطار العربية، هو تضاعف الويلات واشتداد النكبات واستشراء الهزيمة في النفوس.
وعندما حاولت فئة طامحة إلى الحياة خلق ربيع من كوى الغيب، واستمطار المستحيل، كان الرد أقسى مما كان يُظن، فغرقت البلاد في بحور من الدماء، وسقطت رؤوس كثيرة، كان أعلاها رأس “الدولة” التي اتضح أنها لم تكن موجودة إلا هيكلاً وهمياً يستر عورة الحاكم الفرد المستبد، الذي ببقائه تبقى الدولة وبفنائه تفنى!..
وفي زمن هؤلاء، بلاد الرافدين، واهبة الحياة، العراق.. تموت من العطش!! حتى أسماك دجلة والفرات أتى عليها الفساد، ولكي تعيش يجب أن تتخندق طائفياً، وحتى إن تخندقت فإنك ستموت مقتولاً أو ستعيش موتك كل يوم.
أما في أرض الكنانة، فالخوف يعشش في الصدور، والعسكر يتربصون بالزوايا والنوايا، والجوع ينمو كل يوم ويكبر على حساب الصغار، والنيل يكاد من خيبته يكف عن الجريان في أرض مُنعت زراعة الخير فيها.
وجنوباً، حيث يتفرع النيل ويغذي كل عروق الأرض، يكافح السودان لخفض سعر الخبز، وأقاليمه ينفرط عقدها وتتشظى كرغيف يابس، لكن ثمة رئيس يمنُّ على العباد ببقائه في السلطة حتى فرط آخر حبة في العقد!..
وبينما ينشغلون بمعاركهم البينية، ينزف الخليج العربي ويكلح وجهه يوماً بعد يوم، حصار وتطبيع وصفقات وتصفيات.. والثروة تمر إلى جيوب مساندي العروش والتيجان، إلا أن الخطر القادم من الجنوب لن يترك أحداً في أمان، حتى أولئك الذين يلعبون على الحبال، سيعلمون أن صديق الجميع لا صديق له.
ولأننا نتقدم واثقين إلى الوراء، تعود ليبيا إلى حظوة إيطاليا التي تتصرف وكأنها ما زالت تحتل تلك الأرض الطيبة، والفارق الوحيد الآن هو أنه لا يوجد في ليبيا عمر المختار.
وتغرب شمس المغرب العربي، ويتبدد الأمل ما بين عهدة خامسة في الجزائر، وفقر ويأس متصاعد في المغرب، وحكم عسكري يراوح في موريتانيا، ومحاولات جادة في تونس، تكبو إلا أنها تنهض وتواصل الرهان، وعليها يراهن المتفائلون.
أما في سوريا، فإن التراب اختصم، والحدود رُسمت بالدم الذي يصعب محوه، ولذا يرى فيها النظام الرسمي العربي صورة مثالية للتهديد والوعيد، فمن يريد أن يصبح مثل سوريا؟ يقولون لشعوبهم، مباهين مزهوين!.
إن الوضع العربي الراهن لا يمكن الخروج منه بالتمني أو بانتظار معجزة أو مدّ يد عون، فالنظام الرسمي الحاكم قد اهترأ ولم يعد قادراً على إدارة المرحلة، فزمن الحكم بالشعارات ولّى، وزمن الحكم البوليسي ولّى، وزمن تكميم الأفواه ومنع المعلومة ولّى، إلا أن المعضلة تكمن في عدم تجديد النظام لأدواته من جهة، وعدم قيام الشعوب – من جهة أخرى- بمسؤولياتها في تشكيل حراك سياسي وفكري وخلق علاقات اجتماعية وثقافية جديدة تثور على السائد وتتهجّى حركة التاريخ لتنتج مسارات سياسية تناسبها وتراعي خصوصيتها وإمكاناتها، في تكريس لفكرة العجز التي ما زالت تلازم العربي منذ قرون..
فنحن كما قال نزار قباني:
نقعد في الجوامع تنابلاً كسالى
نشطّر الأبيات أو نؤلّف الأمثالا
ونشحذ النصر على عدونا من عنده تعالى!!
عذراً التعليقات مغلقة