في الأشهر القليلة الماضية بدأ النظام السوري بالحديث من خلال وسائل إعلامه عن إنتهاء الحرب على “الإرهاب” والالتفات إلى المرحلة الجديدة في البلاد وهي “إعادة الإعمار”. وفي سياق متصل زمنيا كانت روسيا الراعي الأول للنظام، وقائدة جميع المعارك والتسويات الأخيرة لضمان سيطرة النظام على أكبر بقعة جغرافية ممكنة لفرض التسوية السياسية على العالم، والقفز عالياً على مطلب التحول السياسي الحقيقي من خلال طرح بند إعادة الإعمار وبقوة في عواصم الدول الغربية خوفاً من تحمل نفقات إعادة بناء ما دمرته طائراتها الحربية لوحدها.
وفي الوقت الذي يتناقش رؤساء العالم في قمم ثلاثية (روسية تركية إيرانية)، إلى رباعية (روسية تركية فرنسية ألمانية) حول آلية رسم الخارطة السياسية الجديدة لسوريا متجاهلين الأسد، كان نظام الأسد يبدأ بإعادة إعمار تتناسب طرداً مع البيئة الحقيقة لهذا النظام القمعي والتي تتلخص في حكم الفرد، رامياً بعرض الحائط نتائج الحرب الكارثية التي حولت البلد إلى كومة من الركام وساحة معارك واصطفافات دولية وعالمية، والتكلفة الإنسانية الباهظة من صراخ الأمهات وأشلاء الأطفال.
لماذا يعيد نظام الأسد تماثيل حافظ الأسد تحديدا؟
حافظ الأسد هو البعبع الذي كان هاجساً لكلّ سوري، يخاف منه الأطفال الذين لا يعرفونه بعد وفاته أكثر مما يخافون الإبن الذي ما زال يحكمهم وهو على قيد الحياة، عيونه التي تراقبهم في أي مكان إن كان حيّاً أو ميتاً، تحركاتهم كلامهم وربما أحلامهم، السوريون الثائرون تحدوا خوفهم وحطموا جميع تماثيل حافظ الأسد، كسروا الخوف بداخلهم من خلال تحطيم إله الخوف المتمثل بهذا الصنم المشيد في كل ساحة ومدينة سورية، وعندما تحرر السوريون من بعبع حافظ الأسد القابع بداخلهم، كان الإبن تحصيل حاصل فهو يحكم بيد حافظ الأسد وتراثه الدموي، واتبع كل تعليمات والده العملية التي طبقها في مدينة حماة في الثمانينات ولكنه كان أكثر جنوناً بحيث وسع الرقعة لكل مدينة وحارة وشارع لتصبح كل سوريا حماة.
هل سينجح بشار الأسد في إعادة استنساخ سوريا قبل 2011؟
الثورة لم تنجح في هذه المرحلة بتحقيق الهدف والمطلب الأول منها وهو التغيير السياسي والتخلص من حكم الأسد (الأب والإبن)، ولكن ما أنتجته الثورة غير قابل للنسيان أو التجاهل أو التصرف كأنها لم تكن، على الصعيد السياسي والاقتصادي والإجتماعي، المجتمع السوري تعرض لزلزال سياسي لن يعيد ترميمه نصب كل تماثيل حافظ الأسد التي شيدت من جديد في ساحات المدن المدمرة.
ما هي رسالة النظام للشعب السوري في هذه المرحلة؟
بعد أن سيطر النظام السوري من جديد على مساحات شاسعة من المناطق التي فقد السيطرة عليها بالمعارك في السنوات الماضية مع المعارضة المسلحة، يحاول من جديد ترويض “المتمردين” واعتراف نظام بشار الأسد بوجود “متمردين” هذه أول نتائج الثورة وإعادتهم (لحضن الوطن)، هو قرار وضغط عسكري وسياسي روسي على النظام لأن المنتصر في الحرب هي روسيا ومهندس المرحلة الحالية هي موسكو وكل التفاصيل الغير مهمة متروكة بيد نظام هش يترنح غير قادر على إتخاذ قرارات تتجاوز تشيد تمثال أو تجميل نفق أو إقامة مهرجان الألوان بساحة الأمويين في دمشق.
هل ستراقب عيون حافظ الأسد ستراقب السوريين من جديد؟
من المؤكد أن عيون نظام الأسد ستحاسب السوريون حساباً عسيراً في محاولة أخيرة لإنعاش جمهورية الخوف من جديد، والقبض على الحكم بيد من حديد، ربما ترجح الظروف الإنسانية الكارثية التي عاشها الشعب السوري كفة نجاح النظام آنياً في تحقيق غايته بالعودة كسابق عهده، مستغلاً التعب والإرهاق والانكسار وكل الخيبات والخسارات التي لحقت بالشعب، ولكن ماقبل 2011 ليس كما بعده، وإن كان هناك نصف الشعب تحت قبضة الأسد حالياً فالنصف الآخر لن يتوقف عن التحرك ضده بكل السبل المشروعة، كل بيت مدمر وراءه قصة وألف غصة، وكل معتقل لديه أب أو أم دفنوا تحت الركام الذي يحاول الأسد أن يوهم العالم بأنه قائد عملية إعادة الإعمار بامتياز.
هل يملك النظام القدرة على العودة إلى ما قبل 2011؟
بالنسبة للسوريين في الداخل يظهر للوهلة الأولى أنه قادر على إخافتهم من جديد، المعتقلون السابقون المقدر عددهم بعشرات الآلاف لم يخرجوا حتى الآن، خروج قوائم بآلاف القتلى تحت التعذيب سيزيد فرصة النظام لمزيد من الترهيب والبطش الآني، ولكن التغيرات الجذرية التي طرأت على سوريا خلال سنوات من فقدان السيطرة وظهور كيانات عسكرية او مدنية في مناطق عديدة على امتداد الجغرافيا السورية والتي انتقلت للوصاية الروسية بشكل مباشر ستفرض على النظام المتهالك سيناريو لن يسمح له بالعودة لسابق عهده، والأشهر القليلة القادمة ستظهر حجم فقدان السيطرة على مساحات واسعة بسبب فقدان الجيش لعدد كبير من عناصره قتلى في المعارك خلال سنوات طويلة وتهرب البقية من الإلتحاق، ويعاني النظام بالتدريج من اختلاف الولاءات والميليشيات التابعة له وظهر جزء من هذا الخلاف في الاقتتال بين الميليشيات الخارجة من كفريا والفوعة مع منتسبي الدفاع الوطني من عائلة بري في حلب الشرقية.
النظام في أضعف حالاته رغم الانتصارات العسكرية والشعب على الرغم من كل خساراته مازال يملك القدرة على المبادرة عندما تكون الظروف مواتية، ربما نشهد هدوءً نسبياً لفترة زمنية محددة بسبب حاجة الشعب إلى الراحة بعد الحرب الطاحنة التي عاشها وربما تتغير أساليب المقاومة بعد فشل الحل العسكري وربما تستغرق وقتاً أطول مما كنا نتخيل في بداية الثورة عام 2011 لإسقاط النظام، ولكن بالتأكيد لن يرضى الشعب السوري بنظام الأسد قائداً إلى الأبد، ولن تبقى عيون حافظ الأسد تشمت بذاكرتنا ودماء أطفالنا وخراب ديارنا حيث نصبوا تمثاله في كل ساحة من ساحات مدننا المدمرة.
عذراً التعليقات مغلقة