مازال تطبيق اتفاق ادلب الذي أبرم بين موسكو وأنقرة يوم 17 سبتمبر/ أيلول الماضي رهين خلافات بين الطرفين حول تفسير بنود الاتفاق الذي توصل اليه الرئيسان بوتين وأردوغان في قمة سوتشي.
يتمحور الخلاف حول عدة نقاط أهمها عمق المنطقة “منزوعة السلاح” وتحديد مساحتها ومدة الاتفاق، حيث توصلت لجان المفاوضات المختصة إلى تحديد المنطقة العازلة بعمق 15 _ 20 كيلوا متراً على أن تكون كلها ضمن مناطق سيطرة الفصائل المعارضة، وليس ضمن خطوط التماس مع قوات النظام ومناصفة بين الطرفين كما فهمت الفصائل المعارضة بداية الأمر، ليتبين لاحقاً أن الجانب التركي وافق على أن تكون “المنطقة متزوعة السلاح” على حساب مناطق المعارضة فقط، وتمتد على طول 250 كيلو متراً، تشمل من جهة الغرب مدينة جسر الشغور، ومن جهة الجنوب مناطق من ريف معرة النعمان وصولاً إلى بلدة حيش، ومن جهة الشرق مدينة سراقب وقرى جنوب وغرب حلب.
ويختلف الجانبان الروسي والتركي حول مدة اتفاق سوتشي بشأن ادلب، حيث ترغب روسيا بجعله مؤقتاً _ مثل مناطق خفض التصعيد في درعا والغوطة وحمص _ فيما تريده أنقرة دائماً، مثل منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون.
ترغب موسكو أيضاً في إعادة طريقي (حلب _ اللاذقية) و (حلب _ حماة) إلى سيطرة نظام الأسد قبل نهاية العام الجاري، فيما تتمسك أنقرة بإشراف روسي – تركي عليهما.
الخلاف الرابع يخص مصير الفصائل التي تصنفها روسيا على أنها “إرهابية”، فبينما تريد تركيا نقلهم إلى مناطق الأكراد، تتمسك روسيا بخيار القتال مع “الأجانب” منهم.
تنطوي نقاط الخلاف هذه على الكثير من الإشكاليات التي يصعب حلها أو تمريرها، دون تنازل فاضح ومحرج لأحد طرفي الاتفاق، تنازل ربما يقضي على دور الطرف المتنازل في الحرب السورية وخسارته لجميع استثماراته في هذا الصراع المفتوح على كل الاحتمالات.
مع اقتراب أجل تنفيذ بنود الاتفاق، وتحديداً البند المتعلق بمساحة المنطقة الآمنة، والمسافة التي يتوجب على المعارضة التراجع عنها، وإخلاءها من الأسلحة الثقيلة، قالت تركيا إنها نفذت بند المنطقة العازلة في مدة المرحلة الأولى من الاتفاق وسيتم الانتقال للمرحلة الثانية، لكن بوتين صرّح مؤخراً “أن تركيا لم تنفذ مهمات إنشاء المنطقة منزوعة السلاح في إدلب، إلا أننا نرى أنها تفي بالتزاماتها” وتلك اشارة لاعطاء الجانب التركي مزيداً من الوقت، لأن روسيا تدرك أن التطبيق الحرفي لبند “المنطقة منزوعة السلاح” يعتبر أهم وأخطر بنود الاتفاق، وإذا ما تم على النحو المرسوم له، فإن الفصائل ستخلي أكثر من 40 % من المناطق الاستراتيجية التي تسيطر عليها دون قتال، وهي الأفضل تحصيناً لاحتوائها على المرتفعات والجبال التي تعتبر أهم أطواق الحماية على خط التماس مع قوات النظام، واستعادتها تتطلب جهوداُ استثنائية وقوة عسكرية كبيرة بالعدة والعتاد لن تستطيع موسكو توفيرها في الوقت الحالي، فكان هذا المعطى حاسماً في قرار تأجيل شن الهجوم الروسي على إدلب.
والأسئلة التي تطرح نفسها؛ كيف تجاهل المفاوض التركي هذه الوقائع وانخرط في توقيع اتفاق، هو أقرب إلى الاستسلام منه إلى اتفاق متوازن بين طرفين؟ وماهي طبيعة الضمانات التي تلقاها بعدم مهاجمة إدلب بعد هكذا تنازل؟ وما هو وضع الفصائل ومصير النفوذ التركي في تحديد وضع إدلب في شكل نهائي؟ خاصة بعد التحصينات التركية التي يستشف منها نية تركية للبقاء طويلاً في إدلب؟ ويجري ذلك تحت نظر روسيا التي لا تكف عن التصريح بأن الاتفاق مرحلي، وأن السيطرة يجب أن تؤول لـ”لدولة السورية” في وقت أقصاه نهاية العام 2018.
التناقض الواضح في تفسير بنود اتفاق إدلب بين موسكو وأنقرة، يعني أن حسابات الطرفين ورهاناتهما، هي التي أنتجت الاتفاق وليس قناعتهما بضرورة التوصل إلى اتفاق يشكل بداية لحل المعضلة السورية. فصناع القرار في موسكو وأنقرة ليس وارداً في أذهانهم أخذ المصالح السورية بعين الاعتبار، وفق ما يعتقد كثير من المراقبين، خاصة الجانب التركي الذي يعوّل على قمة اسطنبول الرباعية يوم 27 أكتوبر/ تشرين أول الجاري التي تجمع زعماء روسيا وتركيا وألمانيا وفرنسا للضغط على بوتين، ودفعه إلى التراجع نهائياً عن فكرة اجتياح إدلب، لا سيما ألمانيا التي تمتلك أوراقاً مهمة للتأثير على الجانب ااروسي وقراره، نظراً لحجم المصالح الروسية في ألمانيا.
روسيا لم تخف مراهنتها على عجز تركيا عن الوفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في الاتفاق، تحديداً لجهة التخلص من التنظيمات المتطرفة وعناصرها، وتريد من وراء ذلك وضع أنقرة في موقف ضعيف، وبالتالي دفعها للتخلي عن معارضة اجتياح روسيا لإدلب.
خيارات موسكو وأنقرة وقدرتهما على نسف اتفاق إدلب في حال اكتشاف أي منهما أن الأمور تسير لغير مصلحته، صعبة ومعقدة بحجم التعقيد الذي يلف المشهد برمته، فعدا عن كون العلاقات الروسية التركية متشابكة وكبيرة، فإن البيئة الدولية تبدو مستنفرة ولا تحتمل مثل هكذا خيارات تفتح الباب لحرب جديدة، وأزمة لجوء لايستطيع أحد تحملها، إضافة لحسابات روسيا المتعددة ويأتي في مقدمتها كسب الدعم لإعادة الاعمار في سوريا وعودة اللاجئين كبوابة لإعادة تأهيل النظام، لذلك فإن نقض اتفاقها حول إدلب، سيقضي على كل ترتيباتها بهذا الخصوص، لكن هذا لا يعني انعدام أخطار الصدام، إذا ما توصلت روسيا إلى قناعة بأن الاتفاق لم يأت بالثمار التي وعدت نفسها بها.
يعتبر سلاح إدلب الثقيل أحد أهم الأسباب في تأخير مهاجمة مدينة إدلب لأن بامكانه ضرب مناطق النظام في الساحل وحماة وحلب، لذلك تعمل روسيا والنظام على إحداث ما يسمى “المنطقة منزوعة السلاح” وإبعاده عن خطوط التماس مع قوات النظام وحلفائه، مما يسهل عملية استهداف إدلب بالراجمات والصواريخ دون قلق على مناطق سيطرة النظام بعد أن تتم عملية سحب السلاح الثقيل من خطوط الجبهة إلى الخلف بعمق 20 كيلو متراً، فالخطة الروسية في اجتياح إدلب قبل اتفاق سوتشي كانت تضع هذه المناطق ضمن مرحلة الهجوم الأولي، وكانت تراهن على أن انهيار خطوط الدفاع في هذه المنطقة سيؤدي بشكل أتوماتيكي إلى سقوط إدلب، لكن وفق التقديرات الروسية فإن سقوط هذه المنطقة يتطلب جهوداً كببرة وقوة عسكرية ضخمة، فكيف سيكون الحال إن تم تسليمها دون قتال وعلى طبق من ذهب؟.
عذراً التعليقات مغلقة