يتناوب مسؤولون أميركيون وأوروبيون وروس، منذ أيام، على إطلاق إنذاراتٍ شديدة اللهجة، ومتناقضة الدلالات إلى حد أن سامعها قد لا يفهم منها سوى أن مدينة إدلب شمال سورية مقبلة على مذبحةٍ بالأسلحة الكيميائية، يتهيأ نظام بشار الأسد لارتكابها، وفق بياناتٍ تحذيريةٍ طيّرتها واشنطن ولندن وباريس، مشفوعةً بالتهديد بمعاقبته إن فعلها، أو تستعد قوى سورية معارضة لافتعالها، وفق اتهاماتٍ صريحةٍ ردّدتها موسكو، مقرونةً بالتنديد باختلاق الذرائع لضرب حليفها في دمشق.
ولك إن شئت أن تفسّر كل هذا الكلام، أو بعضه، بما تهوى، فتستبعد أو تستقرب ما تريد منه وما لا تريد، إلا إذا كنت أنت وأسرتك من أبناء المدينة المهدّدة بالاختناق بغاز السارين، أو من المهجّرين إليها عنوةً، بعدما صارت منفى إجبارياً لعشرات الألوف من أبناء مناطق سورية أخرى، كان قد انتصر فيها حلف أعداء الثورة، باستخدامهم الأسلحة الكيميائية، والبراميل المتفجّرة، فضلاً عن البنادق المذهبية الإيرانية، وفوقها جميعاً القاذفات الحربية الروسية.
في هذه الحال، أي إذا كنت إدلبياً، أو نازحاً إلى إدلب، لن تلتفت غالباً إلى الترّهات الدولية المتبادلة عن هوية الجهة التي قد ترتكب المذبحة، ولن تعنيك، على الأرجح، سيناريوهات معقدة يتداولها المحللون السياسيون والعسكريون عن سير المعركة المنتظرة، بقدر ما ستدقق ملياً في وجوه أطفالك، لتملأ عينيك بهم مودعاً، وربما تختلط صورهم في نظرك بصور أطفال آخرين، نقلت شاشات التلفزة تفاصيل موتهم في مواسم مماثلة، وهم يكابدون ليتنفسوا هواءً نظيفاً من بخار السموم. قد تفكّر أيضاً في الفرار لتنجو بهم، غير أنك ستتذكّر ضيق ذات اليد عن توفير الكلفة المالية لرحلة الهروب، وستتمّنى لو أنك من أقلية الروهينغا في ميانمار لتفرّ إلى بنغلادش المفتوحة حدودها أمام جيرانها المضطهدين، وأنت ترى حدود سورية وممرّاتها المؤدية إلى شواطئ الأمان بعيداً عن حضن الوطن، قد أحكم أصحابها إغلاقها، بعدما ضاقت بلادهم بملايين اللاجئين إليها قبلك من أبناء جلدتك.
ماذا يتبقّى بعد ذلك ليستحقّ أن تتذكّره، أو تفكر فيه؟ سيرة الروهينغا هنا لم تأت عفو الخاطر، بل لأن الأنباء عن استخدامٍ وشيك للأسلحة الكيميائية في إدلب تزامنت مع نشر تقرير جديد للأمم المتحدة يدعو إلى محاكمة قادة الجيش في ميانمار، أمام محكمة الجنايات الدولية، أو إنشاء محكمة خاصّة لهم، بتهمة ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية، وهي دعوةٌ ما زال يفصلها بون شاسع عن إمكانية وضعها موضع التطبيق، لكنها تعيد إلى الأذهان تواطؤ العالم مع جرائم إبادةٍ لا تقلّ وحشيةً ارتكبها نظام الأسد بحق ملايين السوريين.
وطالما أن الحديث يدور عن “الجريمة والعقاب”، ستبدو مضحكةً دعاية الروس عن نيّة قوى المعارضة السورية افتعال تمثيلية ضرب نفسها في إدلب بغازات سامّة، كي تستدرّ ضربة غربية لنظام الأسد، والسبب ببساطة أن الأميركيين والأوروبيين سبق لهم أن اكتفوا بعد استخدام الأسلحة الكيميائية ضد غوطة دمشق عام 2013 بصفقةٍ تصادر سلاح الجريمة، وحين حاول الرئيس دونالد ترامب تمييز موقفه عن موقف سلفه باراك أوباما، قصف عام 2017 مطار الشعيرات العسكري، رداً على هجوم آخر بالأسلحة الكيميائية على بلدة خان شيخون، ثم قصفت واشنطن ومعها لندن وباريس أهدافاً غير ذات أهمية قرب دمشق، منذ نحو أربعة شهور، رداً على تكرار الجريمة نفسها في هجومٍ على مدينة دوما.
ممنوع استخدام الأسلحة الكيميائية، واقتل بغيرها، كما تشاء، يقول قادة القوى الدولية الكبرى للأسد، فيخرق تعليماتهم مرة، ويلتزمها مراتٍ ومراتٍ في المدن والقرى والسجون، لأنه يدرك أن “أكثرية الروهينغا” التي يحاول إبادتها في سورية، لا تحظى حتى بالقليل الذي تحظى به أقلية الروهينغا في ميانمار من اهتمام العالم، ويتجاهل دروس التاريخ القائلة إن أحداً من الطغاة أمثاله لم ينج إلى الأبد، وإن تأخّر عقابه.
Sorry Comments are closed