توارث الاستبداد أو مفاتيح المعارضة!

عمر الشيخ12 أغسطس 2018آخر تحديث :
توارث الاستبداد أو مفاتيح المعارضة!

هضم الشّارع السّوري منذ انتفض للمرة الأولى في شباط 2011 في سوق الحريقة بدمشق، الخوف الذي ربّته السلطة في العقول والنفوس والأحلام، لم تكن الثقافة والتجارب السّياسيّة والبرلمانات المزعومة تنقل ألم أهله والمطالبة بحقوقهم والتغيّير والعدالة، لقد أسقط الشّارع كل ذلك وبدأ من صفر النّضال الشّعبي ضد الاستبداد، ما أربك النظام وأجهزته ومؤسّساته العاملة على إضعاف الشّعور بالحريّة والقضاء على التغيير بكلّ أشكاله وتعزيز الطائفيّة والتفرقة في مفاصل الحياة الاجتماعيّة إلى جانب استثمار تقطيع المناطق وفرزها حسب التّوازنات الّتي تضمن تجذّر هذه النظام والإمساك باستقرار رعبه. كان الشّارع يمارس كسر قيوده منذ وفاة الطّاغية الأب، وعندما ورث الابن حكم البلاد، كانت حوله ذات المنظومة الدمويّة التي جعلت الأب على أعناق جميع النّاس، وتفنّن الشّارع مع الابن في حينها باختراع ألقابٍ جديدةٍ من “الأمل إلى الإصلاح إلى الحرية… إلخ” آنذاك اصطاد الابن معظم من وصلت إليه يده ليضعهم أغلبهم تحت كرسيه ورقابته. كانت تلك آخر محاولات الشّارع بقول الحقيقة وانتزاع حريّة النّاس وحقوقهم.

أعتقد أن المعارضة تتلمذت اليوم بكلّ أطيافها وهيئاتها وفصائلها على ذهنية الشّارع، بلا قيادة موحّدة، بلا تنظيم أو أي خطاب سياسيّ مستقل، علماً أنّ الشّارع وحناجر المتظاهرين كانت تطالب بالحريّة من داخل البلاد، لم تستأجر أصوات الآخرين خارج الحدود من دول ومنظمات، لقد غَامر الشّارع بكلّ عرائه وتعب السنوات الطويلة من الاستعباد، غَامر وقدّم طرقاته للسّوريين الأوائل الّذين لم يطلبوا التحكيم “بشرع الدين” أو فرض “العلمانية”، كانوا فقط يريدون أن يتنفسوا حريّتهم “مدنيّاً” وفيما بعد ينظمون صفوفهم ومشروعهم في التغيير وتنافسهم على تطوير البلاد وتقدمها. بالتوازي مع ذلك، استعرّت ظاهرة الانشقاقات الفردية “تضامناً” مع الثورة، واعتبرت مئات الشّخصيات أن خروجها من المنظومة وإعلان ذلك سوف يحدث تغييراً ما! وبما أن النظام في سورية قائم على عصبة أمنية وليس على شخص، لم يقدم هذا إلا هياجاً شعبياً وبعض الأحلام بالتغيير، وذلك كله لم يكن واضحاً، إلا أن الهيئات المعارضة الّتي ولدت في الداخل كانت أكثر صدقاً ووضوحاً وقرباً من الناس برأيي، وهي هيئات مؤسّساتٍ وليست أفراداً، بشكل أو بآخر زرعت السّلطة خططاً لاختراقها والقضاء على فكرها السلمي، ما دفع لاستثمار مباشر من بعض الشخصيات الّتي رضعت من خيرات السلطة لأن تشكل أو تقود بعد الانشقاق هيئات معارضة سريعة، شبه منفصلة عن الشارع، إلى أن وصلت قيادة الحراك إلى منطقة التّسليح والّتي أعتبرها شخصياً تأخيراً طويلاً للنضال ضد هذا النظام، والنتائج نشهدها على الأرض الآن، سواءً من التخلف السّياسيّ لدى الأكثريّة السّاحقة الّتي جرّت الشارع إلى التّنظيمات الإسلاميّة وما ورائها من تدجين المجتمع، ومنحت السّلطة فرصة فك الرّسن لقادة التطرف والجهاد في سجون النظام ليكونوا هم قادة هذا الشّارع ومقتله.

بقي خلف الجدران أغلب من لم يحمل السّلاح، وكلّ من لم يكن متطرفاً، كلّ من يفكر ويقول ولا يدفع الشارع إلى العنف والانتقام، ربّما سوف يعتبرني البعض “طوباوياً” ولكن دعونا ننظر إلى جملة من يجلس الآن في كنف “جبهة النصرة” وفصائل الوصاية التركية وأحرار روسيا الذين صار اسمهم اليوم “فصائل المصالحة” جنوباً، إلى جانب ذلك، يمكن النّظر فقط إلى السوقيّة المطلقة في الخطاب السّياسيّ والإعلاميّ الصّادرة مثلاً عن شخص كان “مدير المكتب الإعلامي” في مجلس الوزراء في حكومة الأسد أيام محمود الزعبي! ومثله عشرات المعارضين، ناهيك عن التّنظير الثّوري الضّعيف والغير واضح لطريق هذا الحراك، فكلّ يسوقه على هواه، بدل أن يكون لدينا قيادة ثوريّة موحدة لمجلس ثوري سياسيّ، كان لدينا عشرات مجالس الشورى، والهيئات الدينية التي لا شأن لها بالثورة سوى الركوب على الشارع لكسب قاعدة شعبية لمآربها بعيداً عن أي تغيير، ذلك أن النظام نفسه في سورية كان يولي لهؤلاء “أصحاب الدين” ممّن يدعون دائماً للقائد بـ “البطانة الصّالحة”، كلّ التقدير والرعاية والسّاعات التلفزيونية والإذاعيّة لتوجيه الشعب بل وأطلق لهم مع بداية الثورة قناة اسمها “نور الشام” لموالاته، معتقداً أن المشكلة لدينا في “الدين”! أمّا من يقدّم فكراً سياسيّاً مختلفاً. حزباً ليبرالياً بعيداً عن مخالب الأمن. قصيدة حرة. مقالة صادقة عن ألم الناس… كان مصيره القتل بمختلف الوسائل.

الشّارع فقد عينيه الآن، الشارع السّوري الحرّ سمح للمليشيات المسّلحة، الأجنبية والرّديفة لأطراف الصراع، بأن تبني حواجز خوفها من الحريّة.

أين هو عبد العزيز الخيّر أين هي رزان زيتونة، لماذا قتل يحيى الشربجي ورفاقه؟ لست على علاقة شخصية بأحد منهم، ولكنّي قرأت عنهم وأفكر، لماذا كل من حمل السّلاح حرّ وطليق وربّما سوف يتحوّل إلى الفيلق الخامس برعاية روسية وتركيا بعد تفكيك معجزة إدلب؟

إن توارث الاستبداد إلى القيادة المعارضة -على كثرتها- جعل من بعبع التّطرف والتبعيّة الفكريّة والجّهل السّياسيّ، أدوات كانت قد بلورت تراجع الثورة إلى منطق المعاملة بالمثل وتمجيد الحلفاء بل وإطلاق يدهم في الاحتلال “لحمايتنا”! مثلاً تجربة اللجوء السوري، لننظر إلى تركيا، ثمة مئات آلاف السوريين يعتبرون أن العقوبات الأمريكية الحالية على تركيا ظلم وعدوان! وبغض النظر عن عدالتها من عدمها، ما شأن السوريين بالتشبيح لتركيا؟ أليس الأولى بهم أن ينتبهوا إلى أن في عفرين ساحة باتت تحمل اسم “رجب طيب أردوغان” أليس الأجدر بهم أن ينتفضوا ضد هذه القيادات المعارضة التي لازالت تناقش باللجنة الدستورية وخفض التصعيد والانتقال السياسي السلمي، بينما الطيران الحربي منذ الأمس يقصف ما بقي من المناطق المعارضة بحجة “تحرير الشام” وأخواتها؟

أخيراً، لو بمقدورنا الاستفادة فقط من تجربة اللّجوء بالتفكر الحرّ بشأن بلادنا، بمعزل عن استخدام مفاتيح المعارضة في تبرير القتل والتّقسيم والسّماح المستمر للدول بتوجيه دفّة هذه الثورة التي أصبحت حرباً ضد السّوريين.

الشّارع فتح لصراخه دروباً للسّوريين الأحرار سواءً من يكتب ويقول ويعمل لبلاده من الخارج ويفضحون أفعال القتل أو من هم في الداخل يكابدون المرارات كي لا تلوثهم براثن تعويم النظام ولا يساهمون بأي شكل في إعادة تقوية طغيانه، أو هؤلاء الذين يقبعون خلف القضبان، لم يستخدموا الدّين وسيلة للنضال، بل كانوا عقلاء أقرب للإنسان السوري الحر ودفعوا ثمن ذلك أرواحهم، لماذا لا نتعلم منهم كيف صرخوا “حرية… حرية” قبل أن تبرر السلطة للرصاصات السكن في أجسادهم بعد صرخات “التكبير وقائدنا للأبد سيدنا محمد” حيث انحسرت الثورة لفئة وربما انتهت فكرتها كنهضة سياسية إلى انغلاق ديني، تسلّح فيما بعد دفاعاً عن “جهاده”!!

ويبقى في البال: هل استبدلنا نظام الاستبداد، باستبداد معارض؟  هل كنّا بحاجة لثورة أخلاق، ثورة ثقافة قبل العمل المسلّح الذي سمح لجيوش الأرض بالحج إلى بلادنا لاقتسامها؟

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل