بسرعة تكاد توصف بالقياسية اختبر مجتمع اللون الواحد والقائد الواحد والهتاف الواحد، والذي حرم لعقود أي من أشكال حرية التعبير، فضاءً للتعدد والقبول النسبي بالاختلاف، تحكمه قيمة الحرية بعيداً عن القيود الأمنية والاجتماعية، وقيمة المساواة بين جميع الحاضرين دون النظر في خلفياتهم وانتمائاتهم ، مما أسس لروابط وصلات جديدة على السوريين، شكلت وعبر ذات الفضاء زمن الثورة أحد أهم عناصر المواجهة مع الأسد، فهل نجح الشباب السوري عبر “فيس بوك” ببداية الثورة فيما فشل فيه حاملو السلاح عندما انتقلت الثورة من السلمية الى المسلحة؟
حتى نفهم تماماً كيف إنضم السوريون إلى أحد أهم مواقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، والذي لم يكن أغلبهم يعرفون عنه أي شيء قبل العام 2011، يجب أن نستعرض قليلاً تجارب بعض الدول العربية معه، والتي كان لها تأثير إيجابي بتشجيع السوريين على إنشاء حسابات خاصة بهم لاحقاً.
قبل العام 2011 لم يعرف السوريون موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، إلا بحدود ضيقة جداً تعتمد على محبي تكنولوجيا الاتصالات وصبرهم على استخدام برامج فك التشفير لمساعدتهم على استخدام فيس بوك وتويتر وبعض المواقع الأخرى المحجوبة من قبل حكومة النظام السوري لأسباب”أمنية”.
وأذكر تماما ان حسابي الشخصي على فيس بوك عام 2008 لم يضم أي صديق سوري حقيقي أو افتراضي، على عكس أصدقائي المصريين الذين كانوا نشطين جداً على هذا الحائط الأزرق، حيث تحول حائط الفيس بوك في مراحل مبكرة ملتقى للشباب المصري يعكس همومهم اليومية، ومساحة كبيرة لانتقاد الواقع السياسي لاحقاً، توجت بإنشاء أحد الناشطين صفحة “كلنا سعيد” في العام 2011 احتجاجاً على حادثة قتل الشاب في أحد مخافر الشرطة.
وبمتابعتي لصفحة “كلنا سعيد” والتي حظيت بـ110 آلاف متابع خلال عشرة أيام فقط، شعرت بالغبطة والخجل بذات الوقت، فهم يتحدثون بأصوات مرتفعة وبأسماء حقيقة ويضعون صورهم الشخصية، في حين أنه وباستثناء القلة من المغتربين والمختصين لا يعلم الشباب السوري عن هذا العالم شيئاً.
وبالتزامن مع دعوة صفحة “كلنا سعيد” المصريين للنزول إلى الشوارع تحت شعار “ضد التعذيب والفساد والظلم”، والتي توجت بثورة 25 يناير، كان النظام السوري يدرس فجأة إلغاء الحجب عن مواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك وتويتر. التي شكلت مصدر الخبر والمعلومة عن الثورات المفاجئة التي عصفت بالوطن العربي، حيث شجعت بعض السوريين داخل سوريا على إنشاء حسابات خاصة بهم لمتابعة ما يجري من وجهة نظر جديدة لم يتعرفوا عليها من قبل، بعيداً عن ما تبثه القنوات الرسمية والفضائية عن تصور لما حدث ويحدث. ولم يتخيل أي سوري أن هذا الحساب الذي أنشأه سيتحول بالمستقبل القريب لخطر قد يصل بصاحبه للموت تحت التعذيب.
ولكن كان لبعض المغتربين طموح أكبر من المتابعة ومراقبة الأحداث، فأنشأوا صفحة تحمل اسم “الثورة السورية ضد بشار الأسد” ودعوا من خلالها الشارع السوري للخروج في 15 آذار 2011 للمطالبة بالتغيير والحرية السياسية، متأثرين بالتجربة المصرية.
لم يعلم بوجود تلك الصفحة أو بهذه الدعوة إلا الفئة القليلة التي تملك حسابات شخصية على فيس بوك الذي رفع عنه الحجب فجأة، وبالتالي لم تلق أي تأثير يذكر على الشارع الجاهل بهذا النوع الجديد من التواصل عبر الانترنت، وبتاريخ 15 آذار خرج عدد قليل جداً من الشباب في سوق الحميدية، ولكن هذا العدد على صغره كان حدثاً جللاً في جمهورية الخوف، ومؤشراً لما سيأتي لاحقاً، وبالفعل في الجمعة التي تليها في تاريخ 18 آذار، خرجت من الجامع العمري في مدينة درعا “مهد الثورة” مظاهرةٌ عفوية، بعيدة عن التنظيم والتخطيط، احتجاجاً على اعتقال أطفال المدينة الذين كتبوا على حائط مدرستهم شعارات مناوئة للأسد متأثرين بثورات الربيع العربي.
ومن هنا كانت أحد أهم عوامل الخلاف بين النشطاء السوريين في اعتماد تاريخ بدء الثورة السورية.
منع النظام كل وسائل الإعلام العربية والعالمية من دخول المناطق الثائرة التي لحقت بركب الثورة سريعاً وكانت الرواية الرسمية للتلفزيون السوري أن هناك (مندسين) بين المتظاهرين يتحملون مسؤولية أعمال العنف والقتل وتخريب مؤسسات الدولة، فبالتالي كانت النافذة الوحيدة للشباب الثائر هي صفحات فيس بوك، لإثبات كذب رواية النظام وإثبات حقهم بالتظاهر السلمي، ومحاولة توثيق جرائم النظام بقمع المظاهرات والاعتقال التي طالت شرائح مختلفة.
اعتمد الثوار على تطوير تكنولوجيا الاتصالات، فطوروا أدواتهم رغم عشوائيتها بالبداية، ونظموا أنفسهم بالتدريج بما بات يعرف لاحقا “بالتنسيقيات”، كل مدينة ثائرة تنقل الأحداث الخاصة بها موثقة بالصور والفيديو ،بداية بالمظاهرات ونهاية بنشر أسماء القتلى والمعتقلين على يد النظام، بحيث تصدر فيس بوك المشهد وأصبح هو قبلة السوريين جميعاً على اختلاف شرائحهم الاجتماعية وتوجهاتهم السياسية معارضين وموالين، وأصبح جزءاً مهماً من الحراك الشعبي للثائرين، وتحولت الصفحة التي دعت للتظاهر بالبداية “الثورة السورية ضد بشار الأسد” لمنبر كبير يجمع كل السوريين المعارضين للنظام، لاختيار اسم الجمعة القادمة التي ستخرج فيها المظاهرات عبر استفتاء تقوم به الصفحة أسبوعياً. فالثورة كانت بتلك المرحلة متناغمة واقعياً وافتراضياً فالمتظاهر على الأرض هو المتواري خلف صفحته على فيس بوك، وبالمقابل كان الشبيح على الأرض هو الشبيح على الفيسبوك في الصفحة الأشهر التي يقودها النظام السوري وهي “الجيش الالكتروني السوري”.
وفي تلك المرحلة كانت مجرد الكتابة على حائط الفيس بوك قد تؤدي بصاحبها للموت تحت التعذيب بتهمة “ناشط”، مما أجبر الكثير من الناشطين على استخدام أسماء وهمية للمحافظة على سلامتهم واستمرار عملهم.
في العام 2012 انتقلت الثورة السورية لمرحلة أخرى، وهي مرحلة حمل السلاح، وانتقل معها دور الناشط من شخصية تملك أفكار ورؤية عن التغيير المنشود، بابتكار طرق للتعبير عن رفض الواقع السياسي القائم بالطرق السلمية (مظاهرات، كتابة لافتات، رفع أعلام، غناء، رسم على الجدران)، وتوثيقه على الفيس بوك واستثماره إعلامياً لكسب الرأي العام العالمي، من أجل شرح عدالة القضية السورية، إلى مجرد ناقل لأخبار المعارك كمراقب لما تقوم به المعارضة المسلحة،دون أن يكون له رأي بتطور الأحداث، ويوماً بعد يوم بعد أن تصدرت الكتائب الاسلامية المشهد ومع سيطرة داعش وجبهة النصرة على مساحات واسعة من سوريا، من لم يستطع الالتزام بأجندة كل فصيل كان ينسحب بهدوء أو تحت تهديد السلاح، وبالنتيجة بدأت الساحة تضيق على الناشطين وتتقلص فرصة تأثيرهم بالجمهور الشعبي كما كان بالأشهر الأولى للثورة.
ومع احتدام المعارك عاماً بعد عام بين النظام والمعارضة المسلحة، طفت إلى السطح قوة السلاح في فرض أمر واقع، فلم يعد للفيسبوك وناشطيه إلا ترف توثيق ما يحدث بأحسن الأحوال، وبالتالي لم يعد له تأثير يذكر على السوريين، وتحولت أغلب صفحات فيس بوك السورية لمجموعات فئوية متفرقة تصب في صالح الجماعات أو الهياكل السياسية والعسكرية المعارضة، التي تم تشكيلها بالتوازي مع ظهور القوة المسلحة، ولم تشهد صفحات الفيس بوك انقسام المجتمع السوري كمعارضين وموالين فقط، بل انقسم مجتمع الثورة ذاته فيسبوكياً مع تعدد وتشعب ما نتج من تطورات وتغيرات على بيئة الثورة وتغير المحتوى تبعا لكل فئة (علمانين، إسلاميين، مثقفين)، ومع نزوح ملايين السوريين خارج القطر، توسعت الدائرة لتشمل الداخل والخارج، ولم يعد هذا الفضاء الأزرق البيئة الحاضنة للمعارضة كما كان ببداية الثورة، بل تحول لأرض خصبة لتصفية الحسابات السياسية والشخصية افتراضياً، والدعوة للكره والتفرقة إلكترونياً، وإلقاء التهم والتجييش الطائفي، وبعيدة كل البعد عما يعانيه الشعب السوري الذي تعرض للتشرد والنزوح والتهجير، وبأحسن الأحوال تحول الحائط الأزرق للمشاركة بالهاشتاقات التي ترتفع أسهمها مع كل حدث جلل يثير مشاعراً مؤقتة للسوريين المقهورين المعرضين للموت يومياً ويترجم بحملات تعكس العجز الذي وصل له الشعب الخائر القوى من كل هذا الموت المستمر، كالمشاركة الشعبية الواسعة في هاشتاغ “حلب تحترق” عندما تم حصار حلب وقصفها بكل أنواع الأسلحة قبل خروج فصائل المعارضة من القسم الشرقي بحلب باتفاق مع النظام برعاية أممية، وبالمقابل تصمت كل الصفحات السورية عن المجازر التي يتعرض لها المدنيين في الرقة ودير الزور بالقصف على يد التحالف الدولي مما يظهر بشكل واضح المناطقية التي كرستها الحرب بعد أن نجحت الثورة بالبداية عبر هذا الفضاء ذاته بالقضاء عليها،
إن الفيس بوك حالياً صورة طبق الأصل عما يعيشه السوريين من حالة التشرذم والتفرقة التي عمت الأرض السورية من استخدام منصاته لإعلان حرب إفتراضية قذرة بين العرب والأكراد على خلفية عملية عفرين الأخيرة، وتابعنا مشاعر التخبط واليأس وفقدان الأمل مع سقوط درعا مهد الثورة، وراقبنا التهم المعلبة والنقد البناء المترافق مع شعور عام بالخذلان على المستوى الشخصي والعام، وبالنهاية وحد هذا الحائط الأزرق هموم السوريين ومشاكلهم ولكنه فشل حتى الآن في جمعهم على رؤية يتفق عليها الجميع للخروج من عجلة العجز والفوقية والمناطقية والبدء من جديد، لأنه بات الوطن الوحيد الذي يجمع سوريي الداخل والشتات على أمل أن ترمم الكلمة ما دمره السلاح ونعود للبدايات حيث كانت مصلحة الشعب تعلو على المصالح الفردية وكان الحلم الكبير هو وطن واحد لجميع السوريين وطن حقيقي من تراب وماء وذكريات جبلت جميعها بدماء أهلها لتحقيقها وليس واقع افتراضي وحائط أزرق يختفي بكبسة زر.
عذراً التعليقات مغلقة