زينب سمارة – حرية برس:
يبدو أن الاجتماعات التي تجريها الدول التي انضمت إلى “منظمة الولايات الأمريكية” وهي “منظمة إقليمية أسست في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، لتجمع دولاً من الأميريكيتين، وتهدف لنشر السلام وتحسين الاقتصاد والأوضاع المعيشية، وتضم حاليا 30 عضواً” لا تلقى اهتماما كافيا على موقع يوتيوب، لكن ما حدث بين دولتي الهندوراس وفنزويلا العام الماضي قد قلب الموازين ليحتل مساحة كبيرة من اهتمام الإعلام الاجتماعي الناطق بالإسبانية، حيث اعترض وزير الخارجية الهندوراسي على النظام القمعي لدولة فنزويلا، ليواجهه الممثل الفنزويلي بقائمة الأمم المتحدة للتطور الإنساني لعام 2016، إذ تقدمت فنزيلا على الهندوراس ب59 نقطة، وبهذا تكون إحصائيات الأمم المتحدة قد حققت نصراً لحكومة مادورو الفنزويلية.
بات استخدام احصائيات التنمية لتلميع سمعة بعض الحكومات الديكتاتورية أمراً معتاداً لدى من يعملون في مجال حقوق الإنسان، حيث شهد العقدان الماضيان عمليات إقصاء لحقائق سياسية خطيرة بإصدار إحصائيات تنمية مغلوطة، وإن المشكلة بالأساس هي استحالة جمع معلومات مثبتة من داخل المجتمعات المغلقة، فمن إثيوبيا إلى كازاخستان، يقوم النظام الحاكم بنشر البيانات التي تثبت أداءه الجيد فقط لا غير.
وثمة العديد من المؤسسات الدولية التي تعتبر ممولاً هاماً لعملية جمع الإحصائيات، بما فيها البنك الدولي والأمم المتحدة والمنتدى الاقتصادي العالمي، وتجري كل من هذه المؤسسات دراسات استقصائية ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وعلى نطاق واسع لتشمل أكبر عدد ممكن من الدول، لكن هذه الدول التي تقدر ب93 وأكثر من 4 بليون نسمة يسكنونها وفقا لمنظمة حقوق الإنسان، خاضعة لحكم أنظمة تمنع دخول المحققين الموضوعين لحدود بلادهم، لذا يلجأ جامعو البيانات إلى التعامل مع هذه الأنظمة.
وفي البحرين على سبيل المثال، يحصل المنتدى الاقتصادي العالمي على غالبية المعلومات التي يحتاجها من خلال استقصاء رأي مسؤولين بحرينيين يعملون في المجلس البحريني للتطور الاقتصادي، الذين يتولون بدورهم استقصاءات الرأي ويرسلون النتائج إلى جنيف، وقد يتمكن تحليل منتدى الاقتصاد العالمي من إقصاء بعض البيانات الثانوية من التقرير، لكن الأرقام الرئيسية تظل من صنع النظام الديكتاتوري البحريني.
وفي حالة كوبا، يقول ممثلو اليونسكو إنهم يقومون باستخدام المعلومات التي يزودهم بها النظام حول الوضع التعليمي في تحضير تقاريرهم، لتظهر النتائج أكتر تفاؤلا مما هو متواجد على أرض الواقع.
وفي كازاخستان، قال موظف سابق في خزينة الدولة أن زيارات جامعي المعلومات كانت تبوء بالفشل نظراً لتحكم النظام “السهل” بمخرجات التقارير التي كانوا يعدونها، وعند عدم التزام التقارير بما أرادته لها الحكومات الديكتاتورية أن تكون، قد تقوم الحكومات ببساطة بإلغاء الاستطلاع،
وفي مقابلة أجراها الكاتب مع “جون كليفتون”، مدير استطلاع جالوب العالمي، “ذكر كليفتون” حادثة حصلت قبل عدة أعوام، عندما قام الباحثون العاملون في الشركة بالقبول بجمع معلومات لقنتها إياهم حكومة دولة إفريقية فقط لاستعادة أدواتهم في المطار في طريقهم للعودة، وعلق “كليفتون” على ذلك بأن لا أحد يرغب في رؤية دول فارغة على الخارطة، ومع أن تلك الأخبار ليست أخباراً جيدة، يتحتم علينا في النهاية جمع هذا النوع من المعلومات.
لكن تقارير التنمية التي تحتوي على أرقام شبيهة تلغي امكانية منح دول كهذه شرعية مؤسسية، ما قد يترك يؤثر على التجارة وحجم المعونة، في دراسة أجريت عام 2012، كانت صورة بيانات البنك الدولي على وجه الخصوص في وسائل الإعلام على أنها دليل حسن السمعة للاستثمار العالمي، وأنها قد شكلت حالة من التنافس بين الدول التي ترغب في صعود سلم التصنيف العالمي.
أما تقارير اليونسكو، فيتم استخدامها في تقرير التنمية العالمي الذي يموله البنك الدولي، إضافة إلى احصائيات التنمية البشرية الممولة من قبل الأمم المتحدة، وهنا تشير تقارير اليونسكو، على حد وصف المنظمة نفسها، إلى التطور في تحقيق أهداف محلية وعالمية، كما تقيس تقارير اليونسكو مدى جذب النواحي التعليمية في خطة التنمية المستدامة العالمية للمستثمرين، حيث تنقل البيانات من العديد من الحكومات الدكتاتورية مباشرة إلى اليونسكو لتستخدم لاحقاً في تقارير أهداف التنمية المستدامة.
وبمجرد نجاح البيانات الصادرة عن إحدى أنظمة الحكم الديكتاتوري بالوصول إلى أهم القوائم العالمية وأكثرها ثقة، يبدأ السلطويون وداعميهم باستخدام تلك الأرقام في حملاتهم الإعلامية، ما يعيق الجهود الرامية إلى تعزيز حقوق الإنسان في تلك الدول.
عند وفاة رئيس الوزراء الإثيوبي “ميليس زيناوي” عام 2012، أثنى “بيل جيتس” على جهوده التنموية ونجاحه في إنقاذ ملايين الناس من الفقر، متناسيا رقابته شبه الكاملة على كل مرافق الدولة والمجزرة التي ارتكبها بحث مئات من المعارضين له، حينها أشارت كل من صحفيتي نيويورك تايمز وذا إيكونومست، إلى فبركة النظام الإثيوبي لإحصائيات التنمية في البلاد.
وفي فنزويلا، بنى الرئيس الراحل “هوغو تشافيز” سمعته على أنه رئيس الشعب، متباهيا بإحصائيات تظهر تخفيض إدارته لمشكلة الفقر بنسبة 50%، وفي عام 2014، برر خليفة “تشافيز”، “نيكولاس مادورو” قمعه للمعارضة باختطاف وتعذيب طلاب معارضين، مستعيناً ببيانات واردة في صحيفة نيويورك تايمز تظهر أن نظامه يعمل بشكل مستمر على تخفيف الظلم والفقر وتحسين حياة الشعب بشكل عام، حيث صدرت تلك المعلومات بالأساس عن اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة في أمريكا اللاتينية والكاريبي، إذ استخدمت بيانات إنمائية صادرة عن خبراء إحصاء تابعين للنظام الفنزويلي ذاته.
وفي أذربيجان أيضا، استخدمت حكومة “إلهام علييف” الديكتاتورية بيانات تطور اقتصادي لاقتناع العالم بأنها حكومة مزدهرة فعالة ذات مناخ استثماري نشط. كان المنتدى الاقتصادي العالمي، إضافة إلى منظمات أخرى، قد أعطى الحكومة الأذرية منصة للحديث عن نجاحها المالي لتغطية جرائم تتراوح بين سجن المنشقين عن النظام، وبين سرقة البلايين من خزينة الدولة.
إلى رواندا، حيث يرتكب النظام الديكتاتوري الذي يقوده “بول كاجامي” انتهاكات كثيرة لحقوق الانسان، كتصفية صحفيين معارضين، وتمويل مجموعات القتل في غابات الكونغو، وتوظيف قتلة مأجورين عالميين، وسجن منافسي “كاجامي” السياسيين، لكنه وعلى الرغم من كل ذلك يلقى تأييد كثر من السياسيين كـ”بيل كلينتون” و”جيفري ساكس” اللذان يثنيان على قدراته القيادية ونجاحه الاقتصادي. وعند فوز “كاغامي” في الانتخابات الرئاسية منذ أشهر قليلة ماضية بنسبة 99% بدأ المجتمع الدولي بالتساؤل حول صحة البيانات السياسية الصادرة عن الحكومة، لكن مستويات رواندا في التعليم ومتوسط العمر المتوقع والنمو الاقتصادي ما زالت تؤخذ بظاهرها دون إلقاء بال لما يحصل حقا داخل المجتمع المحلي.
يصعب حقا تفسير حالة انعدام الشك التي تسود العالم، مع أن هذه المشكلة ليست بجديدة علينا، ففي عام 1987 قام كاتبان سوفييتيان اشتراكيان بنشر مقال تحت عنوان “الأرقام الخادعة” أوضحا فيها أن إجمالي الناتج المحلي للاتحاد السوفييتي بين عامي 1928-1985 قد كان نموه أبطأ بعشر مرات على الأقل مما كانت تقارير أجهزة إحصاء النظام تعلنه آنذاك، إذ أظهر المقال كيفية التلاعب بالبيانات الرسمية للنظام واستغلالها للتغطية على معاناة الشعب.
في عام 2014، قام باحثون في جامعة باكنيل بمقارنة صور فضائية توضح استخدام الأنوار خلال وقت المساء وعلى فترة من الزمن كدليل على النشاط الاقتصادي، مع تطور مستويات إجمالي الناتج المحلي التي يعلنها النظام، لإظهار كيف تقوم الحكومات الديكتاتورية بالمبالغة في مستويات التطور الاقتصادي التي تظهرها للعلن مقارنة بالحكومات الديموقراطية.
وهناك دراسات أخرى قد ناقشت هذه القضية، كدراسة عالم التاريخ “مورتين جيرفين” تحت عنوان ” الأرقام الفقيرة: كيف تقوم احصائيات التنمية الأفريقية بتضليلنا وكيف نواجه ذلك؟”، ودراسة عالم الاقتصاد بيل ايسترلي التي حملت عنوان ” استبداد الخبراء: علماء الاقتصاد، الطغاة وحق الفقراء الضائع”، لكن هذه التحليلات لم تنجح في تغيير طريقة استخدام الناس لإحصائيات التنمية.
تشكل الاحصائيات الاجتماعية والاقتصادية دليلا لكيفية فهمنا للعالم، خاصة عند استخدامها في الجامعات ومراكز الدراسات، لكن عندما يتم استخدامها من قبل صانعي السياسات والبنوك وفاعلي الخير، يتم التحكم ببيانات حول بلايين الدولارات المخصصة للمعونة والاستثمار، وما يجعل تلك المعلومات الصادرة عن أنظمة ديكتاتورية غير قابلة للنقاش هو وللأسف، اعتماد كثير من الاقتصاديين والممولين والديموقراطيين والمتبرعين عليها للقيام بمهامهم.
ومع غياب تحقيقات صارمة حول مصدر ومصداقية الاحصائيات الاجتماعية الاقتصادية، يبقى الواقع المخبط للأنظمة الديكتاتورية خفياً، وعلى أية حال، قد يبلي المثقفون بلاء حسنا في التعبير عن فخرهم بتقارير التنمية، أفضل من أدائهم فيما يخص حقوق الإنسان، وفي النهاية، حتى وإن تم إثبات صحة بيانات تقرير الأمم المتحدة السابع عشر للتنمية المستدامة، ما الاثر الذي يتركه ذلك الكم من البيانات إن لم يلق الضوء ولو لمرة واحدة على حق واحد من حقوق الفرد، أو الحريات المدنية أو الديموقراطية، وتذكروا.. أن الأرقام ليست دائما بالبساطة والحيادية التي قد تظهر عليها.
عذراً التعليقات مغلقة