أثارت تحركات مصر العسكرية في عامي 1972 و1973 ارتباكاً لدى موسكو حول خطط الرئيس أنور السادات لشن عملية عسكرية في شبه جزيرة سيناء التي احتلتها “إسرائيل” في عام 1967، ما دفع رئيس “كي جي بي” آنذاك، يوري أندروبوف، إلى تكليف “المديرية الرئيسية الأولى” في إبريل/ نيسان 1973 بإعداد ورقة حول الأوضاع في الشرق الأوسط لمناقشتها مع قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي وأمينه العام آنذاك ليونيد بريجنيف.
وتحذر الورقة المؤرخة بـ7 مايو/ أيار 1973، والتي اطلعت عليها “العربي الجديد” ضمن وثائق ميتروخين المحفوظة في أرشيف تشرشل بجامعة كامبردج، من أن “أعمال السادات المدعومة من القذافي والأسد قد تؤدي إلى تطورات خارجة عن السيطرة للوضع في الشرق الأوسط”، دون أن تستبعد أن “يجرؤ السادات على استئناف أعمال عسكرية محدودة للفت أنظار الرأي العام العالمي إلى قضية الشرق الأوسط والضغط على الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة عشية لقاء الرفيق ليونيد بريجنيف مع نيكسون”.
وتضمنت الوثيقة المسربة أيضا مجموعة من التوصيات لثني السادات عن التحرك عسكرياً، بما فيها إيفاد مسؤول سوفييتي رفيع إلى القاهرة ودمشق لعقد محادثات مع السادات والرئيس السوري آنذاك، حافظ الأسد، وإرجاء توريد صواريخ “أرض – أرض” إلى مصر لحين انتهاء المفاوضات بين بريجنيف ونيكسون في واشنطن في يونيو/ حزيران 1973.
خطة اغتيال السادات
تكشف وثائق ميتروخين عن مؤشرات لعلم موسكو بوجود خطط لاغتيال السادات، إذ تشير إحدى الوثائق المسربة إلى حصول “كي جي بي” على معلومات تفيد بأن اجتماعا سريا بمشاركة قادة الأجهزة الخاصة السورية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عقد في دمشق في ديسمبر/ كانون الأول 1977 لـ”مناقشة مسألة تدبير أعمال إرهابية وتخريبية لاغتيال السادات وأشرف مروان وكمال أدهم، مستشار العاهل السعودي الملك فيصل بن عبدالعزيز، وجرى تشكيل ثلاث مجموعات قتالية لتنفيذ العمليات وإيفادها إلى بون وباريس ولندن”.
إطاحة أشرف مروان
في مايو/ أيار 1976، نُفذت حملة تشهير شاملة ضد سكرتير رئيس جمهورية مصر العربية للاتصالات الخارجية المعادي للاتحاد السوفييتي أشرف مروان، وفق ما ورد في نص إحدى الوثائق التي سربها الكولونيل فاسيلي ميتروخين. وبحسب الوثيقة التي اطلعت عليها “العربي الجديد”، فإن جهاز “كي جي بي” قاد حملة كاملة لإطاحة مروان الذي كان يعتبرا معاديا للاتحاد السوفييتي، وذلك من خلال فضح اتصالاته مع الأجهزة الخاصة الأميركية والكشف بواسطة عميل في بيروت عما تقول الوثيقة إنه “استيلاء مروان على مبالغ مالية كبيرة خصصتها السعودية والكويت لمصر لشراء أسلحة، ووقائع التراشي وغيرها من الأعمال غير المشروعة”.
ولم يكتف “كي جي بي” بذلك، بل تم إيصال معلومات إلى السادات تفيد بـ”زيادة الشائعات في محيط الرئيس المصري حول علاقة عاطفية بين مروان ومحيطين بالرئيس، لإقناعه بأن سلوك مروان وحرصه على استخدام وضعه للتربح الشخصي ينسف مكانة الرئيس في عيون الرأي العام العربي”.
وذكرت وثيقة أخرى أن مسؤولا رفيعا بـ”كي جي بي” زار مصر في مايو/ أيار 1975 بهدف تعزيز العمل ضد الأميركيين، وضمن مهامه “التشهير وتشويه سمعة أشرف مروان بصفته متواصلا مع الأجهزة الخاصة الأميركية يسلم أسرارا عربية للولايات المتحدة وعبرها إلى إسرائيل”.
وتذكر الوثيقة أنه لتحقيق هذا الهدف “تم استخدام وقائع لقاءاته السرية مع مساعد السفير الأميركي لدى جمهورية مصر العربية، د. فريز بشقة هذا الأخير”، وتوضح الوثيقة أن الحملة تهدف إلى إقناع الحكومة المصرية بأن الأميركيين يمارسون عملا استخباراتيا نشيطا في مصر.
وبحسب وثائق ميتروخين، فإن جهود “كي جي بي” ساعدت في إقالة مروان من منصبه في عام 1976، كما تؤكد الوثائق استمرار العمل على تشويه سمعة الشخصيات المعادية للاتحاد السوفييتي. ويعلق مصدر من أسرة الرئيس الراحل عبدالناصر، رفض ذكر اسمه، قائلا “عقب وفاة أشرف مروان في لندن تواصل معنا مسؤولون على أعلى درجة في مصر وطلبوا عدم فتح قضية مروان من جديد”. وتابع “أشرف خدم في أجهزة سيادية داخل الدولة، وأدواره كانت تقتضي التعامل مع جهات استخباراتية أميركية بعلم السلطات المصرية”.
وفي مؤشر لمحاولة “كي جي بي” اختراق دائرة الرئيس السادات، تتضمن إحدى الوثائق المؤرخة بعام 1978 اسم “زهرة”، التي قالت الوثيقة إنها شقيقة السادات وكانت “قيد الدراسة”، دون الكشف عما إذا كان السوفييت قد نجحوا في التواصل معها أم لا.
تمويل الشيوعيين
مع بدء تراجع النفوذ السوفييتي في مصر في عهد السادات، ازداد ندم الشيوعيين المصريين على قرار حل حزبهم في عام 1965، وفي تلك الفترة، كانت السفارة السوفييتية بالقاهرة على تواصل دائم مع المجموعات الماركسية المصرية للحصول على معلومات حول الوضع في البلاد ونشاطهم، ففي عام 1971، تسلم الماركسي خالد محيي الدين، عضو مجلس قيادة ثورة يوليو ومؤسس حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، الذي يطلق عليه في الوثائق اسم “سويوزنيك” (حليف) مع تصنيفه كـ”اتصال موثوق به”، مبلغا وقدره 1000 جنيه مصري لدعم اليساريين في حملة انتخابات مجلس الشعب.
ومع ذلك، رفض الحزب الشيوعي السوفييتي في عام 1972 طلب الماركسيين محيي الدين ورفعت السعيد دعما في تأسيس “منظمة ماركسية لينينية سرية” في مصر بحجة “عدم توفّر ظروف مواتية بعد”، قبل بدء تمويل “سويوزنيك” عبر الحزب الشيوعي العراقي في عام 1974، واتخاذ قرار تأسيس حزب شيوعي في مصر في عام 1975. ويعلق الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة القاهرة، على ما سبق قائلا “الحزب الشيوعي العراقي صاحب فضل كبير علي شيوعيي الشرق، وكان داعما سياسيا وماليا لكافة الأحزاب الشيوعية المتعثرة خلال فترة السبعينيات”.
وبحسب إحدى الوثائق، فإن مندوب “كي جي بي” في بغداد أرسل مع سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، عزيز محمد، والملقب في الأرشيف باسم “الرئيسي”، في مايو/ أيار 1974، مبلغا وقدره 15 ألف دولار أميركي لمحيي الدين، الذي اعترفت موسكو بأن مجموعته “شيوعية”.
ووفق الوثيقة ذاتها، فإن “الرئيسي” التقى في يناير/ كانون الثاني 1975 مع رفعت السعيد، الذي يشار إليه في بعض الوثائق باسمي “راست” و”بويتسوف” (اسم عائلة منتشر في روسيا ويعود جذره إلى كلمة “بويتس” أي مقاتل)، وسلمه مبلغا وقدره 1200 دولار أميركي، قبل أن يبلغ مندوب “كي جي بي” في بغداد في إبريل/ نيسان من العام ذاته بتسليم قيادة الماركسيين المصريين ما مجموعه 9 آلاف دولار، على أن يتم تسليم الـ6 آلاف المتبقية بالتنسيق مع “كي جي بي”.
وبعد الإعلان عن تأسيس الحزب الشيوعي المصري الوليد تحت اسم “التجمع الوطني التقدمي الوحدوي” في عام 1975، ازداد دعم الاتحاد السوفييتي المالي للحزب عبر الأحزاب الشيوعية الأخرى، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي.
وفي عامي 1978 و1979، ارتفع الدعم السوفييتي للشيوعيين المصريين إلى 100 ألف دولار سنويا، وصولا إلى 120 ألفا في عام 1980.
وتوضح إحدى الوثائق المؤرخة بعام 1978 أنه كان يتم التواصل مع قيادات شيوعية مصرية من خلال موظف في “كي جي بي” يدعى “ماركوف”، وكان يعمل تحت غطاء مراسل صحافي، وكان معتمدا أيضا في اليمن واليمن الجنوبي والسودان وليبيا.
توظيف اليساريين
على صعيد النشاط الاستخباراتي، دفع تدهور العلاقات السوفييتية المصرية بموسكو إلى توخي الحذر عند تجنيد العملاء في عهد السادات، إذ وجه يوري أندروبوف بـ”رفع درجة السرية عند التعامل مع السكان المحليين” وعدم تجنيد العملاء إلا في “حالات استثنائية” أولا، وصولا إلى حظره في عام 1976.
لكن في مايو/ أيار 1980، وافق أندروبوف على توظيف أوساط المعارضة اليسارية في العمل الاستخباراتي “على أساس اتصال غير رسمي” ودون إعلام الحزب الشيوعي المصري بذلك.
وتضمنت إحدى الوثائق عددا من أسماء الأحزاب والمنظمات المقصودة، بما فيها من حزب التجمع الشيوعي ماهر سمعان، الذي تم استبعاده من الحزب الشيوعي المصري في عام 1978، وتنظيم “الجبهة الشعبية” الشيوعي الذي أسس في عام 1979 بقيادة م. توفيق وأحمد حمروش، ومنظمة “8 يناير” بقيادة الأمين العام ر. طنطاوي، و”المطرقة” بقيادة إبراهيم عزام وسلوى ميلاد، وفق البيانات الواردة في الوثيقة، دون الكشف عن طبيعة العلاقة مع هؤلاء وما إذا تسنى لـ”كي جي بي” التواصل معهم من عدمه. ويصف نبيل زكي، المتحدث باسم حزب التجمع، تلك العلاقة قائلا “الحزب الشيوعي المصري أو المجموعات الماركسية لم يكونوا أتباعاً للاتحاد السوفييتي. العلاقة كانت تنحصر في الأخذ برأينا من جانب السفارة السوفييتية بالقاهرة في الأحداث السياسية بمصر، كحال كافة السفارات الأجنبية”، بينما يقول حسين عبدالرازق، عضو المكتب السياسي لحزب التجمع، إن “حلقة الوصل مع الاتحاد السوفييتي خلال مرحلة الرئيس الراحل محمد أنور السادات كانت ميشيل كامل، والذي كان عضوا في اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي المصري وبُعِثَ إلى الخارج، كي يكون مسؤولاً عن بناء علاقات الحزب الخارجية والذي انتخب عضواً في اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي المصري”، نافيا هو ونبيل زكي تلقي أي دعم مالي، قائلا “كانت هناك برامج تعاون ودعم متعدد الأشكال لم يكن منها الدعم المالي على الإطلاق”.
Sorry Comments are closed