مقدمة
ألقى الباحث الهولندي نيكولاس فان دام محاضرة في منتدى برونو كرايسكي في السابع من آذار 2018 تطرّق فيها إلى الملف السوري في كل فصوله الدموية ومآلاته الكارثية، وموقعه في الصراع الدولي والإقليمي الذي حكم سيرورة الثورة المجهضة، والحرب السورية التي ترتبت على إخفاقاتها، على ضوء سؤال استراتيجي، عنون موضوع محاضرته: التدخل الأجنبي في سورية: أما آن الأوان للاعتراف بأن فرصة سقوط النظام السوري والحرب ضده قد ضاعت؟ بعد تقديم عرض تاريخي، ترافق مع الذكرى ال55 لانقلاب 8 آذار البعثي- الناصري سنة 1963، في إطار تاريخي للدخول إلى عمق الإجابة على هذا السؤال المحوري، وطريقة إدارة المجتمع الدولي بكل اصطفافاته للأزمة السورية التي اتسمت بالاستعصاء، وتضيق شرايين المخارج الضرورية للقطع مع أجواء الحرب، والدخول في سياق تفاوضي جاد للأطراف المتحاربة، وهو مايبدو بعيد المنال حتى الآن.
ولفهم السياسات الحاصلة في السنوات السبع المنصرمة، التي لم تحقق أي تراكم ذي مغزى سواء في وقف الحرب في سورية أو للتوصل إلى حل سياسي يقطع مع الديكتاتورية وميراث النظام البعثي، ينصب جهد فان دام البحثي كمدخل لإعادة تقويم ونقد أداء القوى الفاعلة وردود أفعالها، في جردة حساب، تتقصى لامعقولية العقل السياسي الدولي عبر مؤسساته الحكومية، أو منظماته الأممية التي اتسم أدائها بالعجز الفاضح،كما تتقصى عقل المعارضة السورية، بتعدد رؤوسها وتوجهاتها، وإلزامات مموليها ومشغليها، وفي غياب اقتناص الفرصة المناسبة لممارسة كان من المطلوب تحقيقها في الوقت المناسب، ثم إهدار الفرص، ومحاولة البحث من جديد عنها في سياقات مختلفة تجعل من الصعوبة تحقيقها، في ظل تغير موازين القوى، والقبول بشروط أقل، وتكاليف أكثر.
هذا البحث انتظم في أفق معيار ناظم لازم تحليل الباحث الهولندي: ماهي الطرق والوسائل التي كان بمقدور المجتمع الدولي توفير الأكلاف الباهظة التي آلت إليها الأزمة السورية، وتوفير الدماء والضحايا في متن حرب عبثية لاتبدو نهاية قريبة لها، وفي قطع الطريق على مآلاتها الكارثية في بداياتها ــ هذه الوسائل تستند أيضاً وفي المقام الأول إلى ضرورة توفر رجالات دولة، بدلالة تفكيرهم ورؤيتهم الاستراتيجية بما ينسجم ومكانة بلد تتجاوز أهميته الاعتبارات الجيوسياسية، الإقليمية والدولية، وبما يزخر فيه من طاقات وموارد بشرية وطبيعية. هذا الغياب الفاضح لا يفسره الطابع القمعي الوحشي للنظام وحسب، بل استنزاف تربة المجتمع السياسي السوري بعد خصوبة السياسة في عقود ما قبل الاستقلال، وحتى ما بعد الانقلاب الستيني الدرامي.
في إحاطة تاريخية للباحث والأخصائي في الشأن السوري فان دام، باعتباره ملماً وعلى دراية عميقة بالسياسة والاجتماع السوري، لايزال كتابه “الصراع على السلطة في سورية” بمثابة مرجع رئيس للباحثين والمهتمين في الشأن السوري استلهم الباحث مفاصل محاضرته على ضوء مقاربته للبنية الاجتماعية والسياسية السورية، ولطبيعة النظام السياسي الذي تشكل وتصلب عوده بعد عام 1970، وهاجس حفاظه التعسفي على السلطة بعيداً عن أي روح ميثاقية، أو انفتاح على الشعب بروح التعددية الحقيقية وتنوع مصالح المجتمع السوري وعلاج التحديات التي تحدق بسورية والمنطقة، بأدواته الأمنية والعسكرية، مسكوناً بالنزعة الإحتكارية للسلطة، بكل طاقتها الإدخارية لقنوات الثروة ووضع اليد على مقدرات الدولة الاقتصادية، هذا الهاجس أتاح استخدام كل الوسائل المتاحة بدءاً من القمع العاري، وصولاً إلى اتباع سياسات التحالفات السياسية التي قوننت فعاليات المجتمع السياسي ومنحت مضمون السياسة طابع “النيجاتيف” أي تفريغ السياسة من مضامينها، وهو ما عبر عنه بالتحالف الجبهوي “الجبهة الوطنية التقدمية” التي انخرطت في متنها قوى سياسية ليس السياسي في أدائها إلا صدى ممارسة السلطة للسياسة، وهو ما طبع أداءها بالطابع الإعلامي التبريري، فضلاً عن الإلحاقي والذيلي. هذا المناخ “السياسي” الخاص منح النظام البقاء المريح نسبياً في سدة السلطة.
الأهم في مقاربة فان دام إستحالة إقدام النظام على أية اصلاحات ذات مغزى، أو تنازلات جدية أمام معارضيه، وقد استقر على خيار مزمن إما الموت أو الطغيان مهما كانت أكلافه وأعباؤه البشرية وهو ما جسدّه شعاره العبثي “الأسد أو نحرق البلد”.
نود في البداية أن نبتعد عن طريقة التفكير الرغبية والمتخيلة التي يعكسها حرف الشرط اللاتاريخي “لو” والانسياق وراء خصوبة التخيلات التي اتسم بها العقل السياسي السوري المعارض بكل الأوهام وسوء التقدير، التي تحاول أن تلوي عنق السيرورات بناء على تلك “اللو” الإفتراضية، إن إضاءة فان دام تمنحنا الجرأة للتأكيد –كم كنا حمقى حيناً وأغبياء وضيقي الأفق حيناً آخر- في عدم إدراكنا لموازين القوى وما يمور في منطقتنا وإقليمنا من اضطرابات ونزاعات ومحاور إقليمية متصارعة لكنها تتفق على هدف جوهري وحاسم: إبعاد شبح الديموقراطية بأبعادها التحررية عن منطقتنا وتحديداً عن دول الطوق الحاكم لدولة اسرائيل، وموزاييك الدول المجاورة لشريان الطاقة الدولي بمنابعه وشرايين نقله. مع كل حذاقتنا للتنبه لأفعال السلطة في دمشق وردود أفعالها سنة 2011 وهي تدخل لعبة الدم والعنف بكامل وحدتها وتماسكها، فلربما أعاننا النظر إلى قصورنا في عدم ملاحظة نقاط ضعف النظام الداخلية آنذاك، في مكامن قوته وتنظيم الحراكات الجماهيرية والثورية العفوية بعقل التحالف الجبهوي والسياسي والحزبي في الكل السوري وحشد المجتمع المدني بكل أطيافه لمعركة المواجهة مع الديكتاتورية، الشرط الداخلي كان حاسماً في التقليل من مخاطر و”شرور” النظام المعهودة.
تأكيد فان دام في ضرورة الحوار والتفاوض مع النظام، لم يتأتَ وحسبُ لموقفه الحازم من رفض خيار العسكرة وتداعياته الكارثية التي لم تؤدِّ إلا إلى ديمومة عمر النظام واللعب بمقتضى قوانين ملعبه وحلفائه الإقليميين، ومن تصور عقلي في مقاربة فان دام يرجح احتماليته، بأن بقاء الثورة السلمية وصمودها الملحمي أمام وحشية قوى الأمن والجيش، كان لابدّ أن يخلق تصدعات في بنية النظام في مراكزه الأقوى والفعلية في مؤسسة الأمن والجيش من جهة أولى، وثانياً بما يترتب على هذا الخيار من تضحيات لاتقارن بما تكبده الشعب السوري من دمار وقتل ولجوء وانسداد أفق، مع معرفته التامة –كما معرفتنا- من إرتعاد النظام من كلمة حوار –كيف بالتفاوض؟- وعدم الاعتراف بأحد مغاير خارج نطاقه السلطوي وبمنطق “استعماري” لا ينظر إلى عموم فئات السكان إلا كغبار بشري.
يتذكر الجميع كيف مَوْضَعَ النظام السوري نفسه خارج قوس الوضع الثوري الذي عم المنطقة العربية والذي أدى لسقوط رؤوس أنظمة دون المس ببنى النظم السياسية مطالع سنة 2011 معتداً بماكينته القمعية العسكرية – الأمنية، وبتحالفه الإقليمي والدولي مع إيران وروسيا. هذا الاعتداد الذي منحه وهم القوة المطلقة غير المعنية في النظر لمتطلبات الإصلاح وفتح الملفات الداخلية ذات الأهمية. لكن قوة النظام ليست في تماسك أجهزته، واتحاد سلطته بمؤسسات الدولة السورية وحسب، بل والحق يقال في متانة تحالفاته الإقليمية والدولية.
نلحظ في مقاربة فان دام مساراً خطياً وغائياً في قراءة سيرورة النظام البعثي في سورية، منذ انقلاب 1963 إلى العام 2011 لا يقترب من وهج العوامل المحرضة على إنتاج الحدث وردود أفعال اللاعبين في منطقة ساخنة من العالم، ويتمفصل فيها البلد بتشابكات الجوار والتاريخ مع محيطه –ما فوق الإقليمي- لاريب أن تقاطع المصالح هو ما صاغ الحدث الانقلابي في 1963 على حكومة الإنفصال آملاً في عودة الوحدة السورية – المصرية التي أسقطتها حكومة الإنفصال سنة 1961 والتي كانت تعبيراً عن تحالف بورجوازييّ المدن الكبرى مدعوماً من قوى إقليمية مناوئة لنظام الوحدة. وهذا الإنقلاب لم ينفرد به البعثيون بمفردهم على المستوى الحزبي والتنظيمي، بل شاركهم به حلفاؤهم الناصريون التواقون لعودة نظام الوحدة مع مصر عبد الناصر.
أما وأنهم قد بقوا في السلطة منذ هذا التاريخ فتحتاج إلى تدقيق وتصويب إذ انبرت فئات وقوى عديدة تحت سلطة حزب البعث الإسمية واحتاجت القوى المهيمنة إلى إزاحات متجددة لخصومها داخل البيت الحزبي والسلطوي الواحد، ولم تكن على نسق واحد أو تجسيداً لقوى متعالية ومتجوهرة مع بداية الحدث الإنقلابي تتحكم بمسار الأحداث من خلف ستار.
نستطيع أن نميز ببرهتين لسلطة البعث الديكتاتوري على سورية، البرهة الأولى وتمتد من العام 1963 إلى العام 1970 والبرهة الثانية من العام 1970 لغاية العام 2011 مع انطلاق الاحتجاجات الشعبية وتصاعد العملية الثورية والتي تلخص سياقاتها الدموية تاريخ سورية الحديث، مجتمعاً وسلطة ونظاماً.
إزاحة التشكيل الناصري في انقلاب تموز 1963 الذي قاده العقيد الناصري جاسم علوان، يعتبره فان دام تشجيعاً من البعثيين على القيام به لإحباطه، وبداية سيرورة الاحتكار البعثي وانفراده في السلطة، ضمن سلسلة إزاحات متجددة وانقلابات داخل سلطة الحزب والدولة، كانت السمة الرئيس فيها صعود الجناح العسكري من الأصول الريفية إلى سدة المواقع الرئيسية في مؤسسات الدولة والحزب.
هذه اللحظة التأسيسية ستطبع بطابعها كل سياق الحقبة التاريخية اللاحقة، بما فيها من إزاحات متلاحقة داخل وخارج النظام في ظل مركزية القرار الرئاسي المشخصن والذي يمثل إرادة القوة لنظام الدولة السورية برمته، دون العودة إلى المؤسسة التشريعية أو الرقابية.
عذراً التعليقات مغلقة