يبدو أن حرب الإبادة التي شنها الروس والإيرانيون ونظام بشار الأسد ضد ساكني غوطة دمشق الشرقية؛ قد أفضت إلى إجبار فصائل المعارضة المسلحة فيها على توقيع اتفاقات التهجير القسري، التي تهدف إلى إفراغ مناطق سيطرة المعارضة من المسلحين، ومن ساكنيها الذين هم الحاضنة الشعبية للثورة السورية التي انطلقت منذ سبع سنوات.
اكتمال صراع النفوذ
ويأتي ذلك استكمالاً لمخطط التغيير الديموغرافي الهادف إلى تفريغ مناطق النفوذ الروسية والإيرانية من المسلحين والمدنيين، في وقت انتقل فيه الصراع على سوريا إلى مرحلة اكتمال وتثبيت مناطق النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية الخائضة في الدم السوري.
كما سيطر شبح التقسيم المجسد على الأرض والذي حذر منه المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، مكتفياً بوصفه بالأمر الكارثي على سوريا والمنطقة برمتها، في وقت فشل فيه المجتمع الدوليعن فعل أي شيء بشأن وقف حرب الإبادة المستمرة منذ سبع سنوات ضد غالبية السوريين.
وتحاول كل من روسيا الاتحادية وإيران وأميركا وتركياوسواها توسيع مناطق نفوذها وتثبيتها ووضع خطوط حمر حولها، حيث تسعى أميركا إلى تثبيت نفوذها بعد إعلان إستراتيجيتها الجديدة في سوريا، الهادفة إلى إنشاء دويلة أو كيان انفصالي في منطقة الجزيرة السورية.
وذلك عبر إعلانها العمل على تشكيل جيش مؤلف من 30 ألف مقاتل، قوامه الأساسي عناصر مليشيات “وحدات حماية الشعب” (YPG) التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني (PKK). وسينتشر هذا الجيش على طول الحدود مع تركيا والعراق وعلى الضفة الشرقية لنهر الفرات، إلى جانب إنشائها قاعدة “التنف” جنوب شرقي سوريا، وقواعد ومطارات عسكرية شماليها.
وبالنسبة لروسيا فإنها تسيطر على منطقة الساحل السوري بدءا من اللاذقية ووصولاً إلى حمص ودمشق، وقد أقامت فيها قواعد عسكرية بحرية وبرية ومطارات، وثبتت وجودها العسكري باتفاقية مذلة أبرمتها مع النظام السوري، تقرّ بتحول القوات العسكرية الروسية إلى قوة احتلال شبه دائم في سوريا.
أما إيران فقد ضمنت الطريق الممتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، وثبتت نفوذها في مدينة البوكمال بالبادية السورية وعلى طول المنطقة الممتدة من دمشق إلى بيروت، وتنشر في سوريا أكثر من 70 ألف مرتزق من مليشيات حزب اللهاللبناني والمليشيات العراقية والأفغانية، هذا فضلاً عن قواعد ومصانع أسلحة، وضباط ومقاتلين من الحرس الثوري الإيراني وسواهم.
واقع التقسيم الجغرافي
يجد الناظر في خريطة سوريا اليوم أنها لم تعد في واقع الحال المجسد كما كانت عليه قبل 2011، بل باتت مقسمة إلى مناطق نفوذ دولية وإقليمية ومحلية، تفصل بينها حدود طبيعية مثل نهر الفرات أو اصطناعية مثل سكة القطار بمحافظة إدلب، إذ إن المنطقة شرق السكة تختلف القوى المسيطرة عليها عن تلك التي في غربها، الأمر الذي يشي بأن التقسيم والتفتيت لم يعد كلاماً نظرياً.
ويصعب القول إن سوريا ستعود كما كانت حسبما يتصور بعضهم، فالتقسيم الذي بات واقعاً مجسداً قد ينتج دويلات، وبالتالي فليست هناك في المدى المنظور والمتوسط أي وحدة لسوريا، لا أرضاً ولا شعباً؛ خاصة في ظل انعدام أي مؤشرات للاتفاق على حل سياسي قريب.
ويبدو أن الحديث المبكر عن سوريا المفيدة (سوريا النظام) وسوريا الأخرى غير المفيدة، لم يعد صالحاً اليوم؛ إذ حتى سوريا المفيدة ليست واحدة وموحدة، بل يتقاسمها محتلان: روسي وإيراني، وتتقاذفها مليشيات من مختلف الجنسيات والنعرات.
وإذا أمعنا النظر إلى سوريا المفيدة -أو سوريا النظام- فسنجد أنها ليست متجانسة كما زعم النظام الأسدي، الذي تحول إلى مجرد عصابات ومليشيات وهيكليات صورية؛ فالمنطقة الممتدة من محافظة اللاذقية مروراً بطرطوس وحمصوبانياس، هي منطقة نفوذ روسي توجد فيها القواعد الروسية البحرية والبرية وشبكة دفاع جوي روسية.
ولا سلطة لأحد على أي عسكري روسي أو مدني يوجد فيها سوى سلطة قيصر الكرملين المخدوع بنفسه، والذي لا يحاسب فيها حتى وإن ارتكب أبشع الجرائم بحق السوريين، وذلك بعد أن “شرعن” الساسة الروس وجود أساطيلهم وقواتهم وجنودهم فيها باتفاقية مذلة مع سلطة الأسد اللاشرعية لمدة 49 سنة على الأقل.
كما أن العاصمة دمشق والمناطق الممتدة حولها -وصولاً إلى الحدود اللبنانية- هي منطقة نفوذ إيرانية، لا تتوقف عند هذا الحد بل إن الطريق الواصل من طهران إلى بيروت -مروراً ببغداد ودمشق- بات سالكاً لكل القوافل العسكرية الإيرانية، ولا سلطة لأحد على المليشيات الإيرانية سوى جنرالات وقادة النظام الإيراني.
أما منطقة شرقي الفرات -أو الجزيرة السورية- التي تمتاز بثرواتها الطبيعية، حيث تقع معظم حقول النفط والغاز وكانت تشكل غلّة سوريا الزراعية، وتمثل ما يمكن تسميته “سوريا الغنية”؛ فهي منطقة نفوذ أميركية بامتياز.
وتمتد هذه المنطقة شمالاً من الحدود مع تركيا، وشرقاً من الحدود مع العراقية، وتصل جنوباً إلى مدينة الرقة ومشارف دير الزور، إلى جانب منطقة المثلث الحدودي ما بين سوريا والعراق والأردن التي توجد فيها قاعدة التنف، التي تؤمن الهيمنة على منطقة البادية السورية الغنية باليورانيوم والفوسفات وسواهما.
وفي شمال سوريا الغربي تقع منطقة “درع الفرات” التي تمتد من مدينة جرابلس وصولاً إلى بلدة الراعي ومدينة الباب، وهي مناطق نفوذ تركية، لكنها لم تكن كافية بالنسبة لطموحات القادة الأتراك، وكان عليهم انتظار التفاهم مع الروس والأميركان لتستكمل قواتهم في عملية “غصن الزيتون” ما بدأته في “درع الفرات” التي توقفت على أبواب منبج، التي منع الأميركان والروس أنقرة من التقدم باتجاهها حين أطلقت “درع الفرات”.
تبدل معادلات الصراع
تغير الوضع كثيراً بعد الاستدارة التركية نحو روسيا؛ إذ بعد اكتمال عملية “غصن الزيتون” بالسيطرة على منطقة عفرين، وانسحاب مقاتلي كل من حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي، لم يكتفِ المسؤولون الأتراك بتوعدهم في منبج فقط، بل راحوا يتوعدون بطردهم من عين العرب وتل أبيض وصولاً إلى الحسكة والقامشلي أيضاً.
غير أن العملية التركية في عفرين وسواها لم تكن لتحصل لولا تفاهمات تركية منفصلة مع الأميركان والروس، لتحجيم حزب العمال الكردستاني وتفرعاته في سوريا.
وبعكس ما كان معلناً من طرف الإدارة الأميركية؛ فإن اقتراب الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من نهايتها اقترن بتغير كبير في الإستراتيجية الأميركية في سوريا، إذ عوضاً من أن تعلن الولايات المتحدة انتهاء مهمة قواتها بالمنطقة، قرّرت البقاء فيها وربطت انسحابها بالتوصل إلى حل سياسي في سوريا.
وقامت واشنطن بالتحضير لوجود عسكري طويل الأمد في منطقة شرق نهر الفرات، والحديث عن جعلها نموذجاً يشابه نموذج برلين الغربية عبر عزمها على البدء في إعادة إعمارها وجعلها نموذجا مستقبليا يُحتذى.
ويبدو أن هذا التغير في الإستراتيجية الأميركية في سوريا حفز كل طرف -من الأطراف الخائضة في الدم السوري- لكي يرد على ذلك بالعمل على تأمين مناطق نفوذه وتثبيتها، وهذا ما جعل الروس والإيرانيين يتملصون من “اتفاقات مناطق خفض التصعيد”، التي كانت تهدف إلى تجميد القتال وتبريد الجبهات، والتحول إلى قضم هذه المناطق واحدة تلو الأخرى.
وبالتالي؛ فليس مستبعداً -بعد تأمين السيطرة على غوطة دمشق الشرقية- الانتقال إلى درعا وريف حماة وإدلب، بغية تأمين مناطق النفوذ الروسية والإيرانية، وذلك تحسباً لتغير معادلات الصراع على سوريا بين مختلف الأطراف.
ورغم ذلك كله؛ فإن الوضع في سوريا متحرك ومتغير، ولا استقرار فيه لأي قوة محتلة، نظراً لاختلاف مصالح وإستراتيجيات القوى الدولية المتصارعة، إذ إن قطبيْ الصراع الأساسيين هما روسيا وأميركا اللتان تشكلان ضابطيْ إيقاع الصراع على الأرض، وتحت مظلتيهما يحاول الإيرانيون والأتراك مدّ نفوذهما.
لكن الثابت في معادلات الصراع هو أن الخاسر الوحيد هو سوريا والشعب السوري، إذ تمكنت كل من روسيا وأميركا من إخراج السوريين جميعاً من معادلة الصراع، وباتوا بعيدين كل البعد عن التأثير في تقرير مصيرهم ومستقبل بلادهم، وتحولوا إلى مجرد أدوات للصراع الكارثي الدائر.
عذراً التعليقات مغلقة