اعتبرت روسيا مقاطعة الهيئة السورية العليا للمفاوضات؛ وفصائل مسلحة سبق وشاركت في لقاءات أستانة؛ مؤتمر سوتشي تحديا صريحا لهيبتها، وضربة قوية لمساعيها تحقيق مكانة إقليمية ودولية، من خلال التحكم بالملف السوري عسكريا وسياسيا، خصوصا أنها (المقاطعة) تمت بالتنسيق مع الولايات المتحدة؛ خصمها اللدود الذي تسعى إلى إقناعه بقدراتها، وبالتسليم لها بلعب دورٍ موازٍ في الملفات الإقليمية والدولية، تمهيدا للعودة إلى نظام ثنائي القطبية؛ وقد زادت اللحظة السياسية الدقيقة والحساسة الحرج والارتباك الذي تسببت به المقاطعة، إن لجهة السياق الذي تمت فيه: الجو الاحتفالي الذي أعلن فيه عن “الانتصار” على الإرهاب في سورية؛ وإعادة قسم كبير من القوات إلى البلاد؛ خدمة لحملة الرئيس الروسي الانتخابية في 18 مارس/ آذار المقبل، أو لجهة الإعلان عن المكاسب المالية التي ترتبت على تجريب 200 سلاح جديد في سورية، بتواتر طلبات شراء أسلحة روسية، بلغ مجموع صفقاتها 50 مليار دولار.
وقد ردت على المقاطعة التي أثارت حفيظتها من على صفحة قناة حميميم العسكرية الرسمية بتهديد مباشر للمعارضة، جاء فيه: “إن امتناع هيئة التفاوض المعارضة وقوى عسكرية وسياسية عديدة عن المشاركة في مؤتمر سوتشي؛ الذي يعد خطوة مهمة في إجراء عملية السلام، يعتبر مؤشراً واقعياً على مدى تغلغل القوى الإرهابية المتطرفة، وحتمية وجوب القضاء عليها، وهو ما يؤكد وجهة نظر موسكو في المحافل الدولية”.
لم تراجع روسيا موقفها وتدرس خلفيات قرار “الهيئة” و”الفصائل” مقاطعة المؤتمر، ومدى منطقيتها في ضوء المعطيات والحيثيات التي أعلنتها، كونها الدولة المنظمة للمؤتمر، من حيث الشكل والمضمون: الخلل في التناسب في قائمة المدعوين، وميلها الفاضح لصالح النظام (1200 من أصل 1600 مدعو للنظام) إلى شعار المؤتمر الذي يحمل علم النظام، في إشارةٍ واضحةٍ إلى أن المؤتمر لن يتطرّق إلى انتقال سياسي حقيقي وجاد، وصولا إلى النتائج المحددة سلفا، والتي عكستها تصريحات المسؤولين الروس، بدءا بإعلان الممثل الخاص للرئيس الروسي في سورية، ألكسندر لافرنتييف، الذي جاء فيه “إن منتدى سوتشي سوف يطلق العمل على دستور سوري جديد، ينبغي أن يتناسق مع التشريعات السورية، وأن يتوافق مع الدستور القائم بشكل صارم، وأن اللجنة الدستورية التي ستعمل على الدستور الجديد، أو على تعديلات في الدستور القائم، يجب أن يوافق عليها الرئيس الحالي بمرسوم، بما يتفق مع الدستور المعمول به”، إلى البيان الختامي الذي لم ينطو على حدٍّ أدنى من التوازن بين مطالب النظام والمعارضة، من خلال نظرته إلى الموقف من منظار “النصر” على المعارضة، في ضوء ميزان القوى الذي مال لصالح النظام، بفعل تدخلها العسكري منذ سبتمبر/ أيلول 2015، وبتجاهل تام لاستمرار الصراع وعدم استسلام المعارضة، وما يستدعيه ذلك من تعاطٍ مرتكزٍ على التوازن بين مطالب الطرفين، كي يحظى الحل بالقبول منهما. لم يعكس المؤتمر رغبتها في حرف القضية السورية عن مسارها فقط، بل وعن محاولتها منح النظام طوق نجاة، بتخليصه من مقتضيات مفاوضات جنيف.
قادت المقاطعة، واهتزاز المظهر الاحتفالي بـ “النصر” العسكري؛ في ضوء مهاجمة القاعدتين الروسيتين في حميميم وطرطوس بطائراتٍ من دون طيار، نجم عنها إعطاب سبع طائرات ومنصة صواريخ إس 400 وقتل تسعة جنود، وإسقاط القاذفة الروسية سوخوي 25 في إدلب ومقتل الطيار، والضربة الأميركية الماحقة لمرتزقة جيش فاغنر الروسي في دير الزور، قتل وجرح فيها المئات، والبديل السياسي الذي طرحته مجموعة الخمسة (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن) في ورقتها المعنونة “بشأن إحياء العملية السياسية في جنيف بشأن سورية”، وصفت باللاورقة، باعتبارها ورقة غير رسمية، ورفعه إلى الأمم المتحدة؛ وفتح ملف الأسلحة الكيميائية في سورية بقوّة في مجلس الأمن ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي، وتشكيل “شراكة دولية لمكافحة إفلات مستخدمي الأسلحة الكيميائية من العقاب” من 24 دولة في اجتماع باريس، قادت إلى تظهير محدودية القدرة الروسية على صرف إنجازها العسكري سياسيا، وعجزها عن فرض قرارها ليس على النظام، الذي نجح في استثمار وجود راعيين إقليمي/ إيران، ودولي/ روسيا، والمناورة بينهما، بل وعلى المعارضة الضعيفة، عندما توفر لها ظرفٌ مواتٍ، كان لها (المقاطعة) فعل الصدمة على غطرسة بوتين، وجرح لنرجسيته، عزّزت نزعة القتل والانتقام لديه ودفعته إلى الالتحاق بنهج إيران والنظام، بتبني إعادة سيطرة النظام على مناطق سيطرة المعارضة في الغوطة الشرقية والقلمون الشرقي وريفي حمص وحماة ومحافظة إدلب بالعمل العسكري المباشر.
دخلت روسيا على خط الهجوم على الغوطة الشرقية، عبر تبرير قصف النظام المرافق المدنية (تبرير مندوبها الدائم في الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، قصف المستشفيات والمدارس والمرافق الحيوية، مثل الأفران والأسواق، بزعمه أن الإرهابيين يتحصنون فيها)؛ ودعوة المعارضة إلى إلقاء السلاح؛ وفتح ممراتٍ آمنةٍ لخروج المدنيين، وفق تصريح وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، في تبنٍّ صريح لإجراء تغيير سكاني فيها، وتلويحه بتكرار سيناريو حلب الذي فُسر بمنح الغطاء اللازم للحسم النهائي لها، واستخدام موقعها في مجلس الأمن، دولةً دائمة العضوية، تمتلك حق النقض (الفيتو)، في منع صدور قرار بوقف الهجوم، وبدء مشاركة قواتها في القصف على مدن الغوطة الشرقية وبلداتها؛ بما في ذلك استهداف المشافي والمدارس والأفران والأسواق. جاء تدخلها مرفقا بالإعلان عن وصول تعزيزاتٍ عسكريةٍ جديدةٍ إلى قاعدة حميميم: طائرات من طراز “سو – 57″، وطائرات من طراز “سو – 35” و”سو – 25″؛ وطائرة الإنذار المبكر من طراز “إي 50 يو1″، وتدعيم قوات النظام بأسلحة فتاكة (دبابات تي 90 مزودة بنظام شتورا لحمايتها من الصواريخ المضادة للدبابات، راجمات صواريخ متطورة سيمرتش، وراجمات التوس الحارقة)، وعملها على تجويف القرار الدولي في مجلس الأمن رقم 2401، عبر فرض استثناء “داعش” وجبهة النصرة، والفصائل المرتبطة بهما، من وقف إطلاق النار، في محاولة لحسم المواجهة بسرعة، وبسط سيطرة النظام على هذه المناطق، بغرض العودة إلى فرض شروطها السياسية على المعارضة، واحتواء التحرك الأميركي، العسكري والسياسي، الذي يربط تقليص نفوذ إيران في سورية بمعاقبة النظام وإسقاطه، عبر رسم حدودٍ جديدةٍ للنفوذ، تميل لصالحها بسيطرة النظام على ثلثي الجغرافيا السورية.
لقد وثّقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل ما لا يقل عن 12763 مدنياً على يد قوات النظام وروسيا، في الغوطة الشرقية المحاصرة، منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، وأن من بين القتلى 1463 طفلاً، و1127 سيدة، في وقتٍ لا يزال 6583 شخصاً من أهل الغوطة الشرقية قيد الاعتقال، ومعظمهم أصبحوا في عداد المختفين قسرياً لدى أجهزة مخابرات النظام وحلفائه.
عذراً التعليقات مغلقة