تشي العملية العسكرية التي تخوضها تركيا في منطقة عفرين في شمال سورية، بالاعتماد على مقاتلين من فصائل في الجيش السوري الحر، بأن الصراع في سورية انتقل إلى مرحلة تثبيت النفوذين، الدولي والإقليمي، فيها، حيث تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى تثبيت نفوذها بعد إعلان استراتيجيتها الجديدة في سورية، الهادفة إلى إنشاء دويلة أو كيان انفصالي في منطقة الجزيرة السورية، عبر إعلانها العمل على تشكيل جيش مؤلف من ثلاثين ألف مقاتل، قوامه الأساسي عناصر مليشيات “وحدات حماية الشعب”(YPG)، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، مهمته الانتشار على طول الحدود مع تركيا والعراق، وعلى الصفة الشرقية لنهر الفرات، إلى جانب إنشائها قاعدة “التنف” في الجنوب الشرقي من سورية، وقواعد ومطارات عسكرية في شمالها، بينما تسيطر روسيا على منطقة الساحل السوري، بدءا من اللاذقية، وصولاً إلى حمص ودمشق، وأقامت فيها قواعد عسكرية بحرية وبرية ومطارات، وثبتت وجودها العسكري باتفاقيةٍ مذلة مع النظام السوري، تقرّ بتحول القوات العسكرية الروسية إلى قوة احتلال شبه دائم في سورية. أما إيران فقد ضمنت الطريق الممتد من طهران إلى بيروت، مروراً ببغداد ودمشق، وثبتت نفوذها في البوكمال في البادية السورية، وفي المنطقة الممتدة من دمشق إلى بيروت، حيث تنشر فيها أكثر من 70 ألف مرتزق من مليشيا حزب الله اللبناني والمليشيات العراقية والأفغانية، فضلاً عن قواعد ومصانع أسلحة، وضباط ومقاتلين من الحرس الثوري الإيراني وسواهم.
وبقيت تركيا الطرف الإقليمي الذي لم يرضه ما حصل عليه في حسابات صراع تقاسم النفوذ، إذ اكتفت مرغمةً بمنطقة محدودة، تمتد من مدينة جرابلس إلى بلدة الراعي، وصولاً إلى مدينة الباب، مع أنها من أكثر الدول المعنية بالملف السوري، حيث منعها الأميركان والروس من التقدم باتجاه مدينة منبج، عندما أطلقت عملية “درع الفرات” في 24 أغسطس/ آب 2016. وأرغمت تلك الممانعة الساسة الأتراك على تغيير وجهتهم الغربية باتجاه التفاهم والتنسيق مع الروس والإيرانيين حيال الوضع في سورية.
ولم يكن للعملية العسكرية التركية في عفرين أن تنطلق، لولا حصول تفاهماتٍ عليها ما بين الساسة الأتراك والروس والإيرانيين، وعدم اعتراضٍ من الإدارة الأميركية، لأنه في عالم السياسة والعلاقات الدولية، لا تتصرف الدول إلا حسب مصالحها القومية ومشاريعها. وفي القضية السورية، لا يكترث ساسة هذه الدول بمعاناة الشعب السوري، ولا بالكلفة البشرية والمادية الهائلة التي دفعتها غالبيته خلال سنوات الصراع في سورية وعليها.
وقد جرت مقايضات دولية وإقليمية خلال التفاهمات بين الساسة الأتراك والروس والإيرانيين بشأن العملية العسكرية في عفرين، إذ ليس مصادفة أن ينسحب الجنود الروس من بلدة كفر جنة القريبة من مدينة عفرين، وأن تعلن وزارة الدفاع الأميركية أن منطقة عفرين لا تدخل ضمن نطاق علميات التحالف الدولي الذي تقوده ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأن تفسح كل من روسيا والولايات المتحدة المجال أمام المقاتلات التركية، بوصفهما القوتين المسيطرتين على السماء السورية، كما أنه ليس بعيداً عن ذلك كله تقدم قوات النظام الأسدي والمليشيات الإيرانية في محافظة إدلب، وسيطرتها على مطار أبو الظهور.
ولعل التخلي الأميركي والروسي عن مليشيات وحدات الحماية الكردية في عفرين يكشف هشاشة تعويلها الكامل على الأميركيين أولاً، وعلى الروس ثانياً، لأن ساسة هاتين القوتين العظميين لا ينظرون إلى اللاعبين المحليين إلا وفق منظور استخدامهم وتوظيفهم خدمةً لمصالحهما وأجنداتهما ومشاريعهما التوسعية.
وفي الجانب الإقليمي، ليس مستغرباً أن يحصل التفاهم بين ساسة تركيا وإيران، إذ على الرغم من تضارب إيديولوجية كلتا الدولتين، واختلاف مشاريعهما في المنطقة، وسعي ملالي إيران إلى تنفيذ مشروعهم الهادف إلى السيطرة على المنطقة، إلا أن ساسة هذا النظام لم يتوانوا عن عقد الصفقات المقايضات مع جميع الأطراف. لذلك، جاء الموقف الإيراني من العملية العسكرية التركية في عفرين باهتاً، حيث اكتفت الخارجية الإيرانية بتصريح عبر عن قلقهم البالغ، وعن أملهم “في إنهاء العمليات التركية ضد المدينة” في أسرع وقت.
غير أن اللافت ليس فقط وقف منظومة إس 400 الصاروخية الروسية في سورية، والسماح للمقاتلات التركية بدكّ حصون مليشيات الحماية الكردية، بل تصريح فرانس كلينتسيفيتش، نائب رئيس لجنة الأمن والدفاع في مجلس الاتحاد الروسي، لوكالة نوفوستي الروسية، إن “روسيا لن تتدخل، حتى ولو حصل نزاع بين الجيش التركي وقوات نظام الأسد”، متذرعاً بأن “الاتفاقات مع النظام السوري لا تنص على ذلك”. وهو تصريح فريد، والأول من نوعه لمسؤول روسي، عن عدم وقوف روسيا إلى جانب النظام الأسدي.
ومهما كانت التفاهمات والمواقف الدولية حيال العملية العسكرية في عفرين السورية، فإن المدنيين السوريين هم الطرف الخاسر الوحيد، عرباً وكرداً وتركمانا وسواهم، وقد يدفعون ثمناً يضاف إلى الأثمان الباهظة التي دفعوها في السنوات السبع الماضية.
ومعروف أنه عندما تشتعل المعارك العسكرية، فإن السياسة لا تغلق أبوابها، بل تفتح على الصفقات والتفاهمات والمزايدات.
وتعي تركيا أن دخول مدينة عفرين مكلف جداً على الجميع. لذلك من المرجح أن تقتصر العملية العسكرية التركية على تمكن فصائل الجيش الحر من استرداد البلدات والقرى العربية التي تحتلها مليشيات الحماية الكردية، وأن يُحاصَر مقاتلو هذه الوحدات أو يُرتب انسحابهم من المدينة بتفاهم دولي، وهو أمر لا يبدو سهلاً، لأن منتسبي حزبي العمال الكردستاني والاتحاد الديمقراطي يسيطرون على هذه المدينة منذ سنوات، والأهالي أشبه برهائن بالنسبة إليهم، والأمر يتوقف على إرادة اللاعبين والخائضين في الملف السوري وحساباتهم، للبتّ في حدود العملية ومداها
عذراً التعليقات مغلقة