كلما اقتربت العمليات العسكرية الروسية في سورية من نهايتها اتضحت مظاهر العجز عن قطف النتائج، وانكشفت هشاشة الادعاء بأن روسيا غدت صاحبة القول الفصل في الصراع السوري، وحاملة المفاتيح لحله. صحيح أن روسيا تمكنت من الحيلولة دون سقوط النظام السوري، وأنقذت إيران من هزيمةٍ محققةٍ في سورية، وعموم المشرق العربي، بتدخلها العسكري خريف العام 2015، إلا أن روسيا تجد نفسها اليوم في مأزقٍ كبير، فلا هي قادرةٌ على الاحتفاظ بقواتٍ عسكرية كبيرة في سورية، بسبب تكلفتها الباهظة، ولا هي قادرةٌ على سحبها قبل قطف النتائج السياسية لتدخلها العسكري، لأن ذلك يعني، ببساطة، تسليم سورية لإيران، كما سلمت أميركا لها العراق، عندما انسحبت منه أواخر العام 2011. صحيحٌ أن روسيا انتزعت اتفاقيةً مدتها 49 عاما تنظم وجودها في ميناء طرطوس السوري على البحر المتوسط، لكن هذه الاتفاقية لا تضمن لروسيا النفوذ الكافي في سورية، مع استمرار وجود آلاف من عناصر المليشيا الإيرانية التي تستعد، حال انسحاب روسيا، للسيطرة على كل مفاصل الحياة الاقتصادية والسياسية والأمنية في طول البلاد وعرضها.
وعلى الرغم من كل مظاهر السلطة والنفوذ التي تملكها، أو يظهر أنها تملكها في سورية، لا تبدو روسيا قادرةً على الحد من نفوذ المليشيات الإيرانية على الأرض، ولا على وقف المشروع الإيراني المتمثل بتحويل سورية إلى حالة لبنانية أخرى، بإنشاء سلطة مسلحة موازية (على شاكلة حزب الله) تملك القرار الأمني والسياسي في البلد، من دون أن تتحمل مسؤولية الحكم والتعامل البروتوكولي مع العالم الخارجي.
ويعد فشل قمة سوتشي الثلاثية التي عقدت في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في التوصل إلى اتفاق شامل لإنهاء الصراع في سورية، بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، أحد مظاهر العجز الروسي الذي أخذ يتبدّى بصورة متزايدة في التحكّم بالنتائج السياسية للصراع السوري. ووفق أكثر التسريبات، فشل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في انتزاع تعهد من نظيره الإيراني، حسن روحاني، بسحب المليشيات التي يديرها الحرس الثوري في سورية، وسط تنامي الشكوك بين طهران وموسكو بعد اجتماع بوتين مع رئيس النظام السوري في سوتشي قبل يومين من القمة الثلاثية، وهو اجتماعٌ جرى الترتيب له من دون علم طهران، لأن الطائرة العسكرية الروسية التي أقلت الأسد إلى هناك مرت عبر الأجواء التركية هذه المرة، وليس عبر أجواء العراق- إيران، كما حصل في المرة الماضية.
ويشك الإيرانيون في أن الرئيس بوتين أعطى التزاما للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال قمتي هامبورغ (ألمانيا) ودانانغ (فيتنام)، بإخراج المليشيات الإيرانية من سورية، في بادرةٍ يُراد منها مساعدة ترامب في التغلب على المعارضة الشديدة التي يواجهها لتحسين العلاقة مع موسكو، في ضوء تعمق التحقيقات بشأن دور روسي محتمل في الانتخابات الرئاسية الأميركية الماضية. وعلى الرغم من نفي وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، وجود هذا الالتزام، إلا أن الحرس الثوري الإيراني كثف، في الآونة الأخيرة، حركة مليشياته في سورية، فيما يشبه استعراض قوة لمواجهة ضغوط موسكو على روحاني، لسحب هذه المليشيات.
وبدا لافتاً في اليوم التالي لقمة سوتشي تصريح قائد الحرس، الجنرال محمد علي جعفري، بأن النظام السوري مدين ببقائه “لمليشيا الشعب”، وأن عليه لذلك “تطبيع” وضع هذه المليشيات واستيعابها وشرعنة وجودها. ويعد الحرس الثوري مليشياته في سورية ضمانة نفوذه فيها، لكن الأخطر أنه يعدها لحماية مصالحه الاقتصادية هناك. فالحرس يخطّط لامتلاك جزء كبير من الاقتصاد السوري، لدعم إمبراطوريته الاقتصادية في إيران، ويبدو أنه يستعد للانخراط بشكل واسع في مشاريع البنية التحتية، وإعادة الإعمار في سورية، وهناك تقارير أجنبية عن مشاريع كبرى منحت فعلا لمؤسسات الحرس في سورية، وأن العمل سيبدأ عليها بحماية مليشياته. إذا فشلت روسيا في تحديد النفوذ الإيراني، ونجح الحرس في بناء إمبراطوريته الاقتصادية في سورية، لإعالة إمبراطوريته المليشياوية، بأدوارها الأمنية والسياسية، تكون روسيا قد خسرت استثمارا مهماً في سورية، لكن السوريين يكونون قد خسروا وطنًا، وهو ما لا ينبغي أن يقع، مهما كان الثمن.
عذراً التعليقات مغلقة