ثمة شيء غير مكتمل في انتصارات «حزب الله» اللبنانية. شيء يُنغص على الحزب انتصاراته. عجز عن الاستحواذ الذي عادة ما يعقب الحروب. ففي الخطاب الأخير للأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله ، والذي أعقب «نصرين» في الجرود وانتصارات في سورية، ثمة اختناق أفضى بنصرالله إلى موقع غير المنتصر، فهو راح يُعدد فيه مَن مِن اللبنانيين اندرج في سياق النصر. هذا ليس كلام منتصر، وهذه ليست انفعالات مُطمئنٍ الى «النصر».
واقعياً، الحزب انتصر. ليس في معركة الجرود الافتراضية وغير المرئية، انما انتصر بفعل انهزام خصومه اللبنانيين أولاً، وأيضاً بفعل تغير جوهري في الخريطة الإقليمية. والحزب اليوم يقيم في السلطة السياسية سيداً لا يُرد له طلب. لكن ثمة قلق يُرافق هذا الانتصار. كلمة نصرالله الأخيرة تؤشر إلى ذلك، وانفلات إعلام الحزب تخويناً وتهديداً يؤشر إليه أيضاً.
نصرالله ضاق بمحطة تلفزيونية واحدة من بين عشرات المحطات التي كانت إلى جانبه في معركة الجرود الغامضة. أشار إليها بالاسم، وكاد أن يعرض تقاريرها، علماً أن المحطة المذكورة، وهي «تلفزيون المستقبل»، لم تسجل خروجاً يُذكر عن الخطاب الإعلامي الرسمي الذي واكب معركة الجيش! ونصرالله أراد أيضاً أن يُصوب ما أعلنه الجيش اللبناني لجهة عدم تنسيقه مع الحزب ومع جيش النظام في سورية في معركة الجرود الثانية، مع ما يترافق مع هذا التصويب من خسائر قد تطاول الجيش.
هناك شيء محير في ما قاله السيد نصرالله! أي حاجة يلبيها الهجوم على محطة «المستقبل»؟ وأي حاجة يلبيها «التصويب» في ما يتعلق بالتنسيق مع الجيش؟ فمن المفترض أن نصرالله منتصر من بيروت إلى بغداد، ومن المفترض أنه على رأس هرم انتصارات لا تنضب، والذهاب بهذه الانتصارات إلى سجالٍ مع محطة تلفزيونية، ومقارعة بيانات الجيش غير الصلبة أصلاً، يكشف عن ضيق بـ «النصر» وعن انعدام القدرة على تصريفه.
القول إن الحزب «غير منتصرٍ»، فيه قدر من المكابرة غير المفيدة، لكن التساؤل عن هذا الضيق يفتح السؤال على أفق آخر. مأزق الحزب في عدم قدرته على تحويل انتصاراته تصدراً. خاف «حزب الله» من حملة ركيكة حاول أصحابها نسبة النصر إلى الجيش اللبناني. فانبرت صحافة الحزب توضح وتعتب وتتألم! وضاق السيد بشاشة منهكة نتيجة قصرها «النصر» على الجيش. الجميع يعلم أن تنسيقاً من المرجح أن يكون قد حصل بين الحزب والجيش في الجرود، لكن المرارة المترافقة مع محاولات الحكومة نفي هذا التنسيق يعيدنا إلى نقطة البداية. الحزب يريد أن يُطوب «النصر» باسمه، وإن لم يكن نصراً مبيناً.
الأرجح ان وراء هذا الاضطراب أسباباً غير سياسية. ضيق مصدره عجز عن نقل «النصر» إلى ما هو أكثر من سيطرة على قرار الحكومة وعلى توجهاتها. فالحزب سليل خبرة أخرى. النصر في عرفه سلطة مطلقة لا ينافس أحد صاحبها عليها، وهي تعني انتقال الفكرة إلى واقع. في لبنان يصعب على صاحب النصر أن يفعل ذلك. ثمة شركاء اذا لم يُدخلهم إلى «نصره» يتحول الأخير انقساماً ويصير نصف «نصر».
لكن العودة إلى مصادر هذا الضيق مفيدة في تفسير اختناق الحزب بانتصارات لم يتمكن حتى الآن من صياغتها سلطة مطلقة ونموذجاً على ما تفعل الأحزاب الدينية والإيديولوجية عادة. واللحظة التي أضاف إليها نصرالله «الجيش العربي السوري» إلى أرجوزة «جيش شعب مقاومة» هي لحظة الرغبة في الشقاق المذهبي، ومرة أخرى أطاح السيد «نصره» مستنفراً حمية مذهبية في وجهه. وهي لحظة مشابهة لعبارة «اليوم المجيد»، ذاك أن السياسة كانت تتطلب تفاديها فيما غريزة الشقاق تدفع بها من الصدر إلى اللسان. الأرجح أن لا شفاء من هذا العقم اللبناني إلا بجراحة كبرى لا يبدو أن الحزب يستطيع القيام بها.
الانقضاض على لبنان بعد أن اكتمل النصر على دولته وعلى حكومته، فعل مستحيل. اذاً على الحزب أن يتحملنا قليلاً، فالأمر لا يعدو كونه فولكلوراً اجتماعياً نقنع أنفسنا من خلاله بأننا خارج دولة «حزب الله».
«تلفزيون المستقبل» والحملة الركيكة للبننة «النصر» من المفترض أن لا يُنغصا على السيد انتصاراته المتنقلة من بيروت إلى بغداد، لكنهما فعلاً ذلك!
اذاً ثمة «نصر» عالق في عنق زجاجة. وزجاجة يبدو أنها أقوى من سعد الحريري وسمير جعجع، فلبنان جغرافيا اجتماعية معقدة، وتصدّر السلطة فيه لا يتيح ضبطه بحزب ديني.
عذراً التعليقات مغلقة