- عمر كوش
عادت الروح إلى جهود ومحاولات البحث عن حل سياسي للقضية السورية، بعد أن تمكنت هجمات الآلة الحربية الروسية ومليشيات نظام الملالي الإيراني ومليشيات النظام السوري وبقايا قواته من إخضاع أحياء الجزء الشرقي من مدينة حلب بالسيطرة عليها، وإخراج مقاتلي المعارضة منها، وتهجير من تبقى من سكانها وأهلها.
وبذلت الدبلوماسية التركية جهوداً حثيثة أسفرت عن عقد لقاءات بين ممثلي فصائل المعارضة العسكرية السورية والروس، تمخضت عن “اتفاق حلب” الذي وفّر معابر آمنة للجرحى والمقاتلين والمدنيين، مستفيدة من تفاهماتها مع ساسة موسكو ومن تعالي المواقف الدولية المندّدة بما عانته وشهدته مدينة حلب من جرائم ومجازر بحق سكانها والدمار الذي لحق بهذه المدينة العريقة.
ودعم ذلك قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2328 الذي أقرّ بعد تعديل مشروع قرار فرنسي يدعو إلى إرسال مراقبين دوليين لضمان سلامة وأمن المهجرين من حلب، نتيجة اعتراضات وعراقيل نظام الملالي الإيراني الذي عمل بوساطة مليشياته المذهبية على النيل من المهجرين وقتل عددا منهم، في سعي فاشل منه لتعطيل الاتفاق.
إعلان موسكو
يبدو أن التفاهمات بخصوص الوضع في سوريا ما بعد حلب بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، جعلت الأخير يسارع إلى الإعلان عن استثمار ما قامت به آلته العسكرية في حلب سياسيًا، حيث أعلن أنه اتفق مع أردوغان على إطلاق مسار مفاوضات جديدة ما بين النظام والمعارضة السورية في العاصمة الكزاخية أستانا، يسبقه التوصل إلى وقف لإطلاق نار شامل في سوريا.
وبالتالي فإن القضية السورية ستشهد تحولات ومشادات ما بين جنيف وأستانا، خاصة بعد أن أطلق المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا دعوة لعقد جولة مفاوضات جديدة في جنيف في الثامن من فبراير/شباط المقبل (20177)، الأمر الذي يدعو إلى استشراف مخاضات جديدة ستعصف بالقضية السورية، في سياق محاولات إيجاد حل سياسي لها ما بين القوى الداعمة لمساريْ أستانا وجنيف.
وبالفعل، جاءت اجتماعات وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وتركيا وإيران في العاصمة الروسية موسكو يوم 20 ديسمبر/كانون الأول الجاري لتخرج بـ”إعلان موسكو” الذي وضع خريطة طريق جديدة لحل سياسي في سوريا، مع توسيع وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في حلب كي يشمل كافة المناطق السورية وجميع الأطراف، باستثناء جبهة فتح الشام (النصرة سابقاً) وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وإن كان إعلان موسكو قد ركز على محاربة الإرهاب والسير في اتجاه تسوية سياسية بين النظام والمعارضة بضمانة كل من روسيا وتركيا وإيران، إلا أنه لم يأت -من حيث الجوهر- بجديد مختلف عما رسمته بيانات وقرارات المجموعة الدولية لدعم سوريا، التي وضعت مسارات تفاوضية في جنيف.
حيث كرر مقولة عدم “وجود حل عسكري للأزمة في سوريا”، وشدد على ضرورة “احترام سيادة واستقلال ووحدة الأراضي السورية كدولة ديمقراطية علمانية متعددة الأعراق والأديان وحدة الأراضي السورية”، في حين أن كلا من روسيا وإيران -وخاصة الأخيرة- تتصرفان بوصفهما قوتيْ احتلال لسوريا، بينما تقود القوات التركيةعملية “درع الفرات” دعماً لفصائل من الجيش الحر في الشمال السوري.
ومن اللافت أن الإعلان أشار -رغم محاولة روسيا نقل المفاوضات من جنيف إلى أستانا- إلى ضرورة الاعتداد “بالقرارات التي صدرت عن المجموعة الدولية لدعم سوريا، وإزالة العوائق أمام تطبيق الاتفاقات الواردة فيها مثل قرار مجلس الأمن 2254″، الذي ينص على تنفيذ بيان جنيف (2012) ودعم بيانات فيينا (2015) الخاصة بسوريا، بوصفها الأرضية الأساسية لتحقيق عملية الانتقال السياسي فيها وإنهاء الصراع، مما يعني صعوبة نقل مرجعية القضية السورية من جنيف إلى أستانا.
ولذلك اعتبر مسؤولون في الخارجية الروسية أن مفاوضات أستانا المقبلة ستكون مكملة لمفاوضات جنيف وليست بديلاً عنها، إضافة إلى أن محاولاتهم الرامية إلى إبعاد الهيئة العليا للتفاوض عن مفاوضات أستانا قد لا تنجح، خاصة أن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو تحدث عن إقناعه نظيره الروسي سيرغي لافروف بأن تكون “المعارضة السياسية الحقيقية” محاوراً في البحث عن حل سياسي، سواء في الجلسات التي ستعقد في أستانا أم في جنيف.
الاستثمار الروسي
ولا شك في أن مساعي الاستثمار الروسي السياسي جعلت الرئيس بوتين يحشد مختلف أدواته الدبلوماسية والاستخباراتية والعسكرية للضغط على ساسة طهران ونظام بشار الأسد، وتوظيف تفاهماته مع الرئيس أردوغان لفرض تسوية في سوريا خلال الفترة المقبلة، مفضلاً عدم انتظار جلوس الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب على كرسي الرئاسة، خوفاً مما قد تحمله الإدارة الأميركية الجديدة من مفاجآت قد لا تسرّه.
وتأتي مساعي بوتين ليس فقط في ظل المتغيرات الميدانية التي أحدثتها آلته العسكرية في سوريا، بل في ظل الغياب الكامل للإدارة الأميركية التي تشهد حالة انتقالية، إضافة إلى غياب الصوت الأوروبي المرتبط أساساً بحالة الغياب الأميركي، إضافة إلى عدم فعالية الطرف العربي منذ بداية الأزمة السورية إلى يومنا هذا.
وبالرغم من العمومية التي جاء بها “إعلان موسكو” ومحاولات الطرف الروسي الجمع بين الطرفين التركي والإيراني على توافقات محددة، فإن التناقض في طريقتيْ نظرهما وتعاملهما مع القضية السورية سرعان ما ظهر في المؤتمر الصحفي الذي عُقد بعد انتهاء اجتماع موسكو.
حيث اعتبر وزير الخارجية التركي أن الأطراف الثلاثة اتفقت على ضرورة اتخاذ إجراءاتٍ عمليةٍ لتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، الذي يطالب بوقف وصول المساعدات الخارجية إلى الجماعات الإرهابية، مشيراً إلى أن “ثمة جماعات أخرى مرتبطة بالنظام السوري ومن الضروري قطع الدعم عنها أيضا”، وبينها حزب الله اللبناني والمليشيات المذهبية الأخرى، معتبرا ذلك “ضروريا لضمان وقف إطلاق نار مستقر”.
فرص الحل السياسي
أعتقد أن المشكلة ليست في مكان التفاوض بل في توفير فرص وإمكانات لنجاح الحل السياسي، خاصة أن الساسة الروس يريدون ضرب مرجعية جنيف التي تعني مرجعية وضمان الأمم المتحدة، إضافة إلى أن مدينة جنيف شكلت بعد الحرب العالمية الثانية مكانا للتفاهمات وحل الأزمات سلميا.
وهم بذلك يريدون الانتقام حتى من مرجعية الغرب، لكن تاريخهم لا يشهد بأنهم ساهموا في حل النزاعات المسلحة والحروب بالطرق السلمية، بدءا من حرب الإبادة في الشيشان وتدمير عاصمتها غروزني، ومرورا بالحرب ضد جورجيا، ووصولا إلى ضم جزيرة القرم ثم تغذية الحرب في أوكرانيا.
ويريد الساسة الروس استثمار تدخلهم العسكري السافر إلى جانب نظام الأسد ونظام الملالي الإيراني للقيام بدور راع للعملية السياسية في سوريا، حيث إنهم حاولوا من قبل رعاية لقاءات “موسكو 1″ (26-29 يناير/كانون الثاني 2015) و”موسكو 2” (6- 9 أبريل/نيسان 2015) وفي أستانا (27-30 مايو/أيار 2015)، وأشركوا فيها معارضات سورية صنعوها بأنفسهم وعلى مقاس النظام السوري، لكنها لم تثمر شيء.
يضاف إلى ذلك أن الأطراف الثلاثة التي اجتمعت في موسكو تريد ضمان مصالحها في سوريا، بصرف النظر عن مطالب السوريين الذي خرجوا في ثورة سلمية للمطالبة بالحرية واسترجاع الكرامة والخلاص من استبداد النظام الأسدي.
بل سعى كل من النظامين الروسي ونظام الملالي الإيراني إلى تثبيت نظام الاستبداد الأسدي ولم يتطرقوا في إعلانهم لمصير الأسد، الأمر الذي يشكل عقدة أمام أي حل سياسي حقيقي، فضلا عن أنه يولّد خلافات كثيرة بين أطراف الاتفاق الثلاثي نفسها.
وإذا كان وزير الخارجية الروسي تحدث عن أن مفاوضات جنيف وصلت إلى طريق مسدود، فإنه يعلم تماما أن ساسة بلاده والنظام الأسدي ونظام الملالي هم من حالوا دون تطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي خاصة القرارين 2118 و2254، وأنهم وضعوا مختلف العراقيل والعقبات التي أفضت إلى فشل مفاوضات جنيف 2 و3.
ويعني ذلك أن أسباب فشل المفاوضات التي يعتزمون عقدها منتصف الشهر المقبل في أستانا ما زالت قائمة، الأمر الذي يكشف غياب أي إمكانية للتوصل إلى حل قريب للقضية السورية؛ وهو ما يعني أنها لا تزال عرضة للتقاذف ما بين جنيف وأستانا وسواهما من المدن والعواصم العالمية.
- الجزيرة
عذراً التعليقات مغلقة