- عبد الوهاب بدرخان
ليس مطلوباً أن تبدّل مصر سياساتها الإقليمية والدولية لتتماهى مع السياسات للسعودية، بل المطلوب أن تتناغم السياسات، لأن الدولتين الأكبر عربياً يُعوَّل عليهما مستقبلاً في استعادة المشرق والخليج العربيين استقرارهما. وفيما تستهدفهما الأخطار ذاتها وعلى رأسها الإرهاب، وتتعرضان للتحدّيات نفسها وأهمها حالياً الاختراق/ الاحتلال الإيراني الذي توصّل الى تخريبٍ كامل لأربعة بلدان عربية بحثاً عن نفوذ وهيمنة، وأهمها دائماً الاختراق/ الاحتلال الإسرائيلي الذي تخلّى كلّياً عن مشاريع السلام ليمارس التربّص بالتحوّلات العربية الحاصلة بحثاً أيضاً عن نفوذ وهيمنة… يبدو واضحاً أن هناك خللاً في التنسيق والتفاهم، وإحجاماً عن توزيع الأدوار بين الرياض والقاهرة، رغم خطورة الظروف وعدم وثوق الدولتين بأيٍ من القوّتين الدوليّتَين، الولايات المتحدة وروسيا، ونياتهما بالنسبة الى المنطقة العربية.
هل هناك وجاهة في حفاظ القاهرة على علاقة مع نظام بشار الأسد؟ ربما، لكن العبرة في إثبات أن سياسة كهذه قادرة على التأثير في الخيارات البعيدة المدى لهذا النظام. فالحجّة الأقوى لدى مصر هي ضرورة صون «وحدة سورية»، وتشاركها فيها السعودية ومعظم دول العالم، أما أن يُعتبر نظام الأسد «ضماناً» لهذه الوحدة ففي ذلك إنكار لكل ما أرتكبه من جرائم وتدمير. بل لا شك في أن هذا رأي لم يعد يشاطره أحد، بدءاً بالموالين للنظام وامتداداً الى حلفائه الروس والإيرانيين الذين ساعدوه ويساعدونه على إخلاء المدن وتهجير أهلها وعلى ترتيب «سورية المفيدة» المحاطة بأحزمة من الدمار والأرض المحروقة، حتى أن هؤلاء الحلفاء لم يعودوا يعتقدون بأن «وحدة سورية» تضمن مصالحهم على المدى البعيد.
قبل الأزمة السورية المتواصلة منذ ستة أعوام، كانت الرياض مدّت يد المصالحة الى دمشق عام 2009، متجاوزةً خلافات كبيرة معها، واستغلّ الأسد هذه المبادرة ليطرح تحالفاً مع إيران. وإذ تجاوبت مصر حسني مبارك جزئيّاً مع المسعى السعودي لكنها انسحبت منه لعلمها أن دمشق لم تعد تنطق إلا باسم طهران، وبالتالي لم يعد في الإمكان ترميم الثلاثي العربي (مصر والسعودية وسورية). وبعد اندلاع الأزمة، في مناخ «الربيع العربي» وتنحّي الرئيس المصري السابق، رأى الأسد أن بقاءه في السلطة ومصير نظامه أصبحا رهن «حسن التدبير» الإيراني. لم يكن لأي دولة عربية، خصوصاً السعودية، دورٌ في إشعال الأزمة التي تفاقمت أولاً بفعل غباء النظام واندفاعه الى العنف المفرط، ثم بتخطيط طهران لتأجيج الصراع وتشويه حقيقته واستثماره في أجندتها الإقليمية.
أعطت السعودية أكثر من إشارة الى عدم رغبتها في التورّط في الصراع السوري، وتواصلت مع النظام بأكثر من رسالة، وعندما بدأت تغيّر موقفها فعلت ذلك مضطرّةً بل مكرهة، حتى أنها لم تغلّب اعتباراتها في مقاربتها للأزمة. لذلك تأخذ عليها المعارضة السورية أنها تأخّرت، ويمكن عزو هذا التأخير الى أسباب كثيرة يبقى أهمها أن الرياض أرادت أن تعطي المعالجات السلمية كل فرصها، لكن الأسد والإيرانيين كانوا قد أصبحوا في مكان آخر، وأرادوا «التدويل» الذي تبدّت كل أهدافه ومعالمه مع التدخّل الروسي، ومن أبرزها طرح سورية للتقاسم في بازار المساومات الدولية بدل الحفاظ عليها شعباً ودولةً وأرضاً. ولا تبدو روسيا، ولا الولايات المتحدة واسرائيل، ممانعة لهذا البازار، بل مختلفة على الحصص، وحتى تركيا اضطرّت لدخوله آملةً في أن تتمكّن من إنقاذ وحدة أراضيها.
كل ما استطاعه باراك اوباما، قبل بضعة شهور، هو أن ينصح السعودية بالتفاوض على «تقاسم النفوذ» مع إيران، أي أنه يتوقّع من دولة عربية كبيرة ومسؤولة أن تنخرط في مساومات على تقسيم دولة بل أكثر من دولة عربية. وإذا فعلت فكيف يمكن أن تقوم قائمة بعد اليوم لأي رابطة (أو جامعة) عربية. لذلك فإن المطلوب عربياً – اذا كان لا يزال للكلمة أي معنى سياسي أو سيادي، واذا كان لا يزال لهذه الكلمة أي مدلول في مستقبل – هو أن تكون السعودية ومصر معاً وبتنسيق كاملٍ للتعامل مع هذا الواقع المقضّ للمضاجع، وأن تدعوَا معاً الى اجتماع عربي لتبني رسالتين واضحتين الى العالم (وإلى العرب) ضد التقسيم وضد الإرهاب. فمشاريع تفكيك الدول وإحلال ميليشيات مذهبية محل الجيوش وإيجاد بيئات دائمة لتفريخ الإرهابيين والإمعان في تمزيق النسائج الاجتماعية لإزكاء الصراعات من دون أي آفاق تصالحية… كلّها أخطار بادية للعيان ولا يمكن أن ينجو أحدٌ من سمومها وسرطاناتها.
حتى لو اختلفت وجهات النظر، وتباينت الرؤى الاستراتيجية، وتضاربت المصالح، فأقلّ ما يمكن أن يُقال في تفرّق الجهود العربية في مواجهة الأخطار أو الركون الى التلاوم وإفلات الردح الإعلامي والتفرّج على الدول الاقليمية وهي تتنافس على جثث العرب المرضى لا تشكّل خياراً مفيداً ومسؤولاً. لا أحد يناقش الآن مسائل كالزعامة أو القيادة، ولا أهداف كالوحدة والأحلاف العسكرية، ولا المغالبة بين مشاريع «دولة إسلامية» (النظام الإيراني نموذجاً) أو «دولة علمانية» (نظام الأسد، كما يُوصف جهلاً واعتباطاً)، فهذه كلّها إمّا سقطت أو أظهرت وجهها اللاانساني وفشلها التاريخي. لكن العاجل والملحّ، منذ زمن، هو أضعف الايمان، أي أن يقرّر العرب وقف الانهيارات الحاصلة في منطقتهم، أو يذعنوا لدول الجوار الاقليمي المكلّفة بحكمهم والسهر على تفتيت بلدانهم ومجتمعاتهم.
هذه هي المسألة الآن ولم تعد تحتمل السياسات الانفرادية التي تبعث برسائل خاطئة الى الأطراف الأخرى، وكأن منطق الدويلات بدأ يوجّه حتى سياسات دول لا تزال قائمة لكنها مستهدفة ومهدّدة. ولا شك في أن ما يظهره العرب من تشتّت جهودهم وهشاشة تماسكهم هو ما يشجع مطامع الآخرين، لكن أي مساومات ومحاصصات لا يمكن أن تستقيم اذا كان العرب واضحين وحاسمين في رفضها. واذا كان من الطبيعي وجود خلافات وتعارضات عربية فالأولَى أن تُوضع على طاولة المصارحات، بدل اللجوء الى «فهلوات» ديبلوماسية غير موفّقة في مجلس الأمن أو الى مواربات أمنية مع الحوثيين ونظام الأسد وقنوات خلفية مع الإيرانيين، لأن ممارسات كهذه من دون أي جدوى واقعية لن تفيد سوى طهران التي سترى فيها علامات ضعف، بل الأسوأ أنها ستلحق أضراراً بالسعودية ودول الخليج كافةً. وبما أن مصر ليست دولة صغيرة وعادية وبالتالي فإن لسياساتها تأثير ونتائج، وطالما أنها في «علاقة استراتيجية» مع السعودية، كما يؤكّد الرئيس عبدالفتاح السيسي، فلا بدّ لسياسات الطرفين أن تصبّ في المصلحة المشتركة حتى لو اختلفت في الظاهر.
قد يكون مفيداً في هذا المجال أن تكون للقاهرة خطوط مفتوحة مع موسكو، مع بغداد ودمشق، ومع أطراف يمنية مناوئة للحكومة الشرعية، كما هي مع أطراف ليبية فاعلة ومؤثّرة، فربما تمكّنها من لعب أدوار والقيام بوساطات أو على الأقلّ لوضع وجهة النظر العربية في سياق الادارة الدولية للصراعات المعتملة. وباستثناء ليبيا حيث استطاعت مصر صياغة دور فاعل لها، وبدعم خليجي ودولي، لم يظهر أي اختراق لها في الأزمات الأخرى التي بدت فيها مهادنة لإيران التي لم تعد تخفي استهدافها للسعودية بل تستخدم الحوثيين وحلفاءهم لجعل الحدود السعودية – اليمنية جبهة قتالية مشتعلة. ولعل الأخطر أن الانتهاء من «الحرب على داعش» سينقل الأزمة العراقية الى مرحلة الهيمنة الإيرانية الكاملة بما تحمله من صراعات داخلية صعبة سيحتاج فيها العراقيون الى طرف أو أطراف عربية (بالأحرى مصر والسعودية) داعمة وقادرة على الدفاع عن قضيتهم. الأخطر كذلك أن الأزمة السورية قاربت أخيراً حدّ المواجهة الدولية التي تبدو مؤجّلة الى ما بعد تنصيب الرئيس الأميركي المقبل، وذهب كل التوقّعات في اتجاه أن لا تبقى سورية على الخريطة وأن تتفاقم معاناة شعبها، وهنا أيضاً لا يمكن استمرار غياب الموقف العربي الموحّد (بالأحرى السعودي – المصري) من مشاريع تقسيم سورية أو الاحتلال الروسي – الإيراني الدائم لها.
- الحياة
Sorry Comments are closed