15 و18 آذار: صراع التواريخ أم معركة التيارات؟

فريق التحرير15 مارس 2025آخر تحديث :
15 و18 آذار: صراع التواريخ أم معركة التيارات؟
عماد برهوم حقوقي وسياسي سوري

في السياسة، كما في التاريخ، لا توجد حقائق محايدة، بل روايات متصارعة، ولكل طرف سرده الخاص. الثورات لا تأتي بدليل إرشادي، بل تُكتب قوانينها على الأرض بالدم والتضحيات، لذا فإن الجدل حول بدايتها لا ينفصل عن المعركة المستمرة حول مستقبلها.

اليوم، وفي أول ذكرى للثورة السورية بعد التحرير، يعيد السوريون طرح السؤال الذي بقي معلقًا طوال سنوات الثورة: متى بدأت الثورة؟ هل في 15 آذار 2011، حين خرجت مظاهرة في قلب دمشق تطالب بالحرية، أم في 18 آذار، عندما أشعلت درعا الشرارة التي فجّرت المواجهة؟

لكن خلف هذا الجدل الثوري، يكمن صراع أعمق: صراع غير معلن بين تيارين فكريين وسياسيين يحددان اليوم ملامح سوريا الجديدة. تيار يرى أن الثورة بدأت كحراك مدني سلمي، وكانت فرصة لإصلاح الدولة وبناء نظام ديمقراطي حديث، وآخر يعتقد أن المواجهة مع النظام كانت منذ البداية حربًا تحريرية لا تقبل الحلول الوسط. إنه صراع بين مجتمعات المدينة والريف، بين النخب والشارع، بين من راهنوا على السياسة، ومن رأوا أن القوة هي السبيل الوحيد.

15 آذار: الثورة المدنية الليبرالية أم حلم الإصلاح المجهض؟

بالنسبة لأنصار هذا التيار، فقد رفضوا فكرة أن الثورة هي انتفاضة مسلحة منذ البداية، وكانوا يرونها حركة مدنيّة احتجاجية انطلقت من دمشق، مدفوعة بروح التغيير التي اجتاحت العالم العربي في عام 2011. حيث وقف شباب وناشطون في قلب العاصمة، يوم 15 آذار، مطالبين بالإصلاح السياسي والعدالة، ولم يكن في حسبانهم أن نظام الأسد لن يفسح لهم المجال حتى للتظاهر.

سرعان ما تحوّلت مطالب الإصلاح هذه إلى دعوات للتحرير، لكن هذا التيار ظل متمسكًا برؤيته: الدولة السورية لا يجب أن تُهدم بالكامل، بل يجب إصلاح مؤسساتها وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية، مع الاحتكام إلى دستور جديد وإجراء انتخابات نزيهة.

أيديولوجيًا، يرتبط هذا التيار بالفكر الليبرالي الديمقراطي، حيث يؤمن بالحكم المدني، والتعددية السياسية، وسيادة القانون. يرى أن سوريا يجب أن تسير على نهج الدول التي نجحت في التحول الديمقراطي، مثل أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، مستندًا إلى دعم القوى الدولية والإقليمية في تحقيق الاستقرار.

لكن مأزقه الأساسي كان أن النظام لم يمنحه الوقت الكافي لصياغة مشروعه. فبينما كان دعاة 15 آذار ينادون بالإصلاح، كان النظام قد اختار خياره الوحيد: القمع الدموي. ومع تصاعد العنف، بدأ هذا التيار يفقد نفوذه لصالح تيار آخر، خرج أغلبه من مجتمعات الريف، حيث كانت المعركة مع النظام أكثر وحشية وأكثر حسمًا.

18 آذار: درعا لم تكن مجرد تاريخ، بل لحظة اللاعودة

في درعا، المدينة ذات التركيبة العشائرية الريفية، لم يكن هناك ترف السياسة، ولا مجال للحلول الوسط. في 18 آذار، حين امتلأت شوارع المدينة بالغضب بعد اعتقال أطفال كتبوا على الجدران شعارات الحرية، كان النظام يواجه المظاهرات ليس بالوعود، بل بالرصاص الحي.

بالنسبة لأنصار هذا التيار، الثورة لم تكن خيارًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية. النظام لم يكن خصمًا سياسيًا يمكن التفاوض معه، بل عدوًا لا بد من إسقاطه بالكامل. ولهذا، منذ الأيام الأولى، كان من الواضح أن هذه الثورة لن تكون سلمية، بل ستكون معركة حتى النهاية.

أيديولوجيًا، يتبنى هذا التيار توجهًا إسلاميًا ثوريًا، يرى أن إسقاط النظام لا يكفي، بل يجب إعادة بناء سوريا على أسس جديدة، تتخذ من الهوية الإسلامية مرجعية للحكم والتشريع. يعتبر أن الديمقراطية الغربية ليست النموذج الوحيد، وأن الحل يجب أن يكون نابعًا من الداخل، مستندًا إلى قيم المجتمع السوري وهويته.

هذا التيار لم يكن امتدادًا للحراك المدني، بل كان ابن الريف المهمّش، الذي عانى من قمع النظام لعقود طويلة. في الأرياف، كانت الثورة أكثر جذرية، وأكثر عنفًا، لأن النظام لم يترك مجالًا لأي خيار آخر. ولهذا، لم تكن الثورة في هذه المناطق مجرد حركة احتجاج، بل كانت حرب تحرير منذ يومها الأول.

ما بعد التحرير: صراع الرؤى أم تصادم المشاريع؟

بعد التحرير، لم ينتهِ الصراع، بل صار معلنًا، وبدأت معركة أخرى أكثر تعقيدًا: كيف تُحكم البلاد؟ التيار المدني الديمقراطي يدعو إلى مرحلة انتقالية شاملة، تتوج بصياغة دستور جديد وإجراء انتخابات حرة، ويرى أن نجاح الثورة لا يُقاس فقط بتحرير البلاد، بل ببناء دولة مدنية حديثة تضمن الحقوق للجميع.

في المقابل، يسعى التيار الثوري الجذري إلى فرض نموذج حكم يرتكز على الأسس التي قاتل من أجلها. لا يرى مجالًا للتسويات، ويطالب بإعادة هيكلة الدولة بالكامل وإعادة تشكيلها وفق معايير ثورية.

وسط هذا الصراع، وجد الرئيس أحمد الشرع، الذي تولى قيادة المرحلة الانتقالية، نفسه بين نارين. فمن جهة، يدرك أن الاستقرار يتطلب حلولًا توافقية، لكنه في الوقت نفسه لا يريد أن يظهر بمظهر المتساهل مع بقايا النظام القديم.

ومن جهة أخرى، فإن الالتزامات السياسية تجاه الإقليم والعالم، والتحديات الاقتصادية المرتبطة بها للخروج من الأزمة، تتطلب منه محاولة التوفيق بين الطرفين. لكن، وكما يبدو، فإن الضغوط تتزايد عليه من جميع الاتجاهات. فإلى متى يستطيع أن يمسك العصا من المنتصف ويحافظ على التوازن الحالي، الذي يبدو هشًّا للغاية؟

وفي ظل هذه التجاذبات، بدأت الاصطفافات السياسية تتغير. فبينما يدعم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية حكومة الشرع بشرط توسيع قاعدة المشاركة السياسية، يضغط التيار الثوري الجذري باتجاه خطوات أكثر حسمًا. في المقابل، ظهرت حركات معارضة جديدة، بعضها من بقايا النظام السابق، وبعضها من جماعات ترفض أي مشروع لا يتماشى مع رؤيتها السياسية لسوريا.

سوريا: بين الثورة والدولة.. كيف تُكتب النهاية؟

ما أثبتته الثورة السورية هو أن الفجوة بين مجتمعات المدينة والريف ليست مجرد مسألة جغرافية، بل سياسية وأيديولوجية أيضًا. ففي حين سعت المدن إلى التغيير السلمي التدريجي، أدرك الريف، منذ اليوم الأول، أن المواجهة ستكون دموية وحاسمة. واليوم، بعد التحرير، لا تزال هذه الفجوة تلقي بظلالها على مستقبل سوريا الجديدة.

هل يمكن التوفيق بين هذه الرؤى المتباينة؟ هل يمكن أن تولد سوريا جديدة تحترم تطلعات الجميع، أم أن الانقسامات ستنعش آمال من يتحينون الفرص لشق الصف من جديد؟

في السياسة، كما في الحياة، لا تُصنع الثورات فقط بالدماء، بل تُبنى بالقدرة على تحويل النصر إلى مشروع دولة. سوريا اليوم أمام لحظة فارقة: إما أن تكون ثورتها بداية لنهضة حقيقية، أو أن تتحول إلى مجرد فصل آخر في صراع لا نهاية له. والقرار في النهاية، بيد أبنائها.

اترك رد

عاجل