

شكّلت الإصلاحات الدستورية العثمانية، ولا سيما دستور عام 1908، نقطة تحول في الوعي السياسي للنخب العربية، التي رأت فيها بوادر تحديث للدولة وإرساء لمفاهيم المواطنة والمساواة. وفي الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية، وعلى رأسها سوريا، تفاعل المفكرون والسياسيون مع هذه التحولات، معتبرين أنها خطوة نحو بناء أنظمة حكم حديثة تستند إلى مبادئ الديمقراطية والتمثيل الشعبي.
وفي هذا السياق، لعبت النخبة السورية دوراً بارزاً في استيعاب المفاهيم الدستورية ونقلها إلى مرحلة ما بعد العهد العثماني، حيث أصبحت مبادئ الدولة الحديثة والاقتراع وتوازن السلطات جزءاً من الخطاب السياسي والقانوني في المنطقة. يناقش هذا المقال أثر الحركة الدستورية العثمانية على نشأة الدستور السوري، ويسلط الضوء على دور النخب في تشكيل معالم الدولة الحديثة، في ظل التحديات السياسية التي واجهتها البلاد خلال القرن العشرين.
وبعد انهيار الدولة العثمانية، أعلن فيصل بن الحسين قائد الجيوش العربية الشمالية في قوات الحلفاء الأوروبيين تشكيل حكومة مستقلة في دمشق باسم والده الشريف حسين، وشاملة جميع البلاد السورية في تشرين الأول/أكتوبر 1918.ففي البداية، أراد فيصل تنظيم البلاد دستورياً، فدعا السوريين إلى عقد مؤتمرٍ يمثل بلاد سوريا الطبيعية. وجرى انتخاب المؤتمر على أساس القانون الانتخابي العثماني على درجتين، من الشعب أولاً ومن النواب ثانياً، فكانت أول انتخابات نيابية شعبية في تاريخ سوريا الحديثة.
عقد المؤتمر ثلاث جلسات رئيسية بين حزيران/يونيو 1919 وتموز/يوليو 1920، وقد وضعت خلالها لجنة الدستور مشروعاً مؤلفاً من 148 مادة لـ المملكة العربية السورية. فاختارت اللجنة الشكل النيابي الدستوري في حكومة ملكيةٍ نيابية(المادة1)، والحكومة مسؤولة أمام المجلس النيابي(المادة 29). وكانت الملكية في مشروع الدستور مُقيدة، والسلطة التشريعية موزعة على مجلسين”النواب والشيوخ”، واقتبستها من نموذج الملكيات الدستورية الأوروبية. وكذلك صاغ دستور المؤتمر السوري الأول مفهوم المواطن بغض النظر عن أي تحديد ديني أو إثني له، فهو أطلق على جميع أفراد المملكة السورية العربية(المادة10)، فالمواطن السوري هو كل فرد من أهل المملكة السورية العربية، وليس من يتكلم العربية فقط(المادة10).
كان الدستور السوري الأول دستوراً مدنياً، حدد دين الملك بالإسلام، وتجلت فيه الهوية العربية أكثر من الإسلامية، واستوعبت مواده التغيرات السياسية والاجتماعية التي طرأت على البلاد بعد خروج الأتراك العثمانيين منها. وقد شكلت قضاياه منطلقاً للجدل والنقاش الشعبي والنخبوي الذي استمر بعد الاستقلال الوطني . واعتبر جمال باروت الدستور السوري الأول، وثيقةً مبكرة عن بُنية قضايا الخلاف التي ستظهر في الحياة الدستورية، وفي علاقات النخب، وصراعاتها في سوريا طوال القرن العشرين.
وانتهت التجربة الدستورية التي عاشها السوريون في مرحلة الحكم الفيصلي، بدخول القوات الفرنسية بقيادة غورو دمشق في 1920، ففرضت فرنسا ـ وفق معاهدة سان ريمو وقرار عصبة الأمم المتحدة ـ الانتداب على سوريا ولبنان. ومنذ البداية عمل الفرنسيون على التأسيس لبناءات سياسية متعددة الإدارات الذاتية، وعملوا على تجزئة البلاد إلى دويلات إثنية وإقليمية، وهي حلب ودمشق والزور وجبل الدروز وجبال العلويين ودولة لبنان الكبير. وحتى تسهل السيطرة عليها أصدر الجنرال الفرنسي ويغان مرسوماً في 1924 بإنشاء دولة اتحادية في سوريا، يستثنى منها لبنان الكبير وبلاد العلويين والدروز. فنتج عن تلك السياسة الفرنسية العنصرية، تصاعد الاحتجاجات الشعبية، وبلغت أوجها في اندلاع الثورة السورية عام 1925. ولأجل أن تحتوي فرنسا الموقف، وافق المفوض الفرنسي على عقد انتخابات لجمعية تأسيسية سورية تضع دستوراً جديداً للبلاد.
بعد انتخاب الجمعية التأسيسية عام 1928، عقدت الجمعية خمسة عشر اجتماعاً، وفي مدة شهرٍ واحد أعدت الدراسات داخل اللجنة التحضيرية، وفي لجنة الدستور. وقَدم فوزي الغزي، مقرر اللجنة، بيانه بشأن الخلفيات التي أوجبت وضع الدستور، بالقول: “كان للنهضات السياسية والاجتماعية التي غذت روح الحضارة الأوروبية أثرها البارز في حياة المشرق العربي”. فاللجنة درست المشروع دراسة مستفيضة، واستعانت بأرقى الدساتير العالمية. وقد ركزت مواد الدستور في مجملها على قضايا الاستقلال والسيادة الوطنية، ووحدة سوريا الطبيعية. وآثرت الجمعية شكل الحكم الجمهوري على الملكي(م3)، لأن معظم الأمم الحديثة اعتمدت عليه بعد الحرب العالمية الأولى.
كان دستور 1928 دستوراً تقدمياً، حيث وسع من صلاحيات البرلمان، ولكنه، جاء ليعبر عن إرادة النخبة التي وضعته، والتي تبنت مفهوماً ديمقراطياً فيه، واستجابت للمزاج الاجتماعي العام، وخاصة فيما يتعلق بكون دين رئيس الجمهورية الاسلام، فلم يكن بالإمكان تغيير المادة رغم اعتراض المسيحيين على تعيين الدين في الدستور، وذلك بسبب شدة تأثير الأوساط الدينية والتجارية المدنية في قرارات الكتلة الوطنية، والتي كان لها الدور البارز في إنجاز دستور 1928م.
سعت الكتلة الوطنية لتكثيف جهودها لنيل التأييد الشعبي للدستور من خلال المهرجانات، واللقاءات الوطنية في دمشق وحلب وغيرها. إلا أن المفوض الفرنسي علَّقَ الدستور، لأنه رآه مخالفاً لبنود نص الانتداب، وأصدر في مايو 1930 قراراً بنشر دستورٍ سوري”مُعدل”. حيث دخل الدستور إلى وزارة الخارجية الفرنسية، وخرج معلقاً في ذيله دساتير للواء الإسكندرون واللاذقية وجبل الدروز. وتضمن الدستور الجديد على مواد دستور 1928 نفسها، وأضاف له المادة 116، إذ أنه “عدل وحوَّر” المواد كما يوافق مصالح فرنسا، وجعل الحكم في سوريا “تحت رحمته” و”طوع مشيئته”. ومع ذلك، فإن مواده كانت أكثر متانة من دستور 1928، والسبب أن مشرعي دستور 1928 كانوا متحفزين لوضعه بسرعة كبيرة، وهو ما سبب ركاكة في عدد من مواده. وهذا لا يعني أن منح فرنسا دستوراً لسوريا، جعلها تتخلى عن النهج الأقلوي لتفريق السكان المحليين، وهو ما أكدته الانتخابات البرلمانية التي جرت في 1931 بموجب مرسوم المفوض الفرنسي. فتَكوَّن البرلمان السوري من سبعين عضواً، وعلى أساس إثني ومناطقي، بينهم اثنان وخمسون نائباً سُنياً، وأربعةَ عشر نائباً من جميع الأقليات.
ولم يتوقف الكفاح البرلماني في سوريا ضد المراسيم والقوانين الفرنسية، وذلك ما عبرت عنه كلمة جميل مردم، وزير خارجية سوريا، في تعليقه على المادة 116 من دستور 1930 خلال جلسة برلمان 1943 بالقول: “أما فيما يتعلق بالمادة 116 فإن البلاد لم تعترف فيها في يوم من الأيام… ولقد مارسنا الحياة الدستورية في عام 1932 و1933، فاعتبرنا هذه المادة في حكم التحفظ. ولقد مارسنا الحياة الدستورية في عام 1936، فاعتبرنا هذه المادة في حكم التحفظ أيضاً. ولقد أقدمنا على مُمارسة الحقوق الدستورية في عهد الرئيس شكري القوتلي، واعتبرنا هذه المادة لا علاقة لها بالدستور السوري مطلقاً”. فأظهرت كلمته تنامي شدة الكفاح السياسي في سوريا، لإثبات حقوق السوريين في بناء دولة دستورية مستقلة، والتأكيد على المبادئ التي جاء بها دستور 1928، والذي وضعته جمعية سورية منتخبة من الشعب بطريقة حرة وديموقراطية.
وفي تلك المرحلة، تشكلت نخبة سورية برجوازية زراعية/تجارية، وحصلت على ثقافة غربية، فأدار أبناؤها المهن الحديثة، والمناصب العُليا في ظل المؤسسات البيروقراطية الجديدة التي شيدها الفرنسيون. حيث ابتكروا الهيئات الرسمية للدولة الليبرالية الحديثة، ومنها البرلمان السوري، والمؤسسات الأخرى. وتولى البرلمان دوره الريادي في معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى أن فارس الخوري، رئيس البرلمان السوري، أشاد إثر عودته من سان فرانسيسكو الأميركية بالدور الذي لعبه البرلمان في خوض معركة الاستقلال، وذلك في 24 نيسان/أبريل 1946، قائلاً:”… وهذه ضبوط مجلس النواب حافلة كلها بصفحات نيرة وخطب فياضة بالحماسة الوطنية والعزة القومية”.
سوريا كانت سباقة إلى تطوير ثقافة دستورية وطنية، واستفادت من تجارب غربية وشرقية متعددة، إلا أنها افتقرت منذ البداية، إلى وجود قيادة سياسية قوية وموحدة، تساهم في ردم الفوارق الطبقية، وتسعى لترسيخ القواعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولذا بقيت عاجزةً عن تأمين الاستقرار الداخلي. واستمر الخلاف والنقاشات السياسية والدستورية التي شغلت الساحة السورية خلال العهد الانتدابي الفرنسي والاستقلال الوطني، ومن ثم في عهد البعث وتتكرر ذات الإشكالات في المرحلة الراهنة؛ مثل النقاشات التي دارت عن علاقة الدين بالدولة، وحقوق الأقليات، والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، والحيلولة من دون أي تدخلات خارجية في شؤونها.